الموت فى جسدى
قصة : بقلم عيسى القنصل
خجلتُ من نفسى كثيراً وأنا ادلف ُ الى عيادتهِ , احببتُ ان تكون الدرجات
الموصلة ُ اليه اكثر َ عدداً وارتفاعا ً حتى استعيدَ بعضا َ من شجاعتى واخفـــى
بالتالى خفقاتَ قلبى المتضاربة بعنف ..رمقت ُ كل َ الموجودين فى صالة الانتظارفى خوف ٍ وتردد ... وارتحتُ بعض الشىء ِ حين لم اجد احداً اعرفهُ
جلست ُ فى الصالة فى زواية ٍمظلمة ٍ ..تنتبانى موجات ُ بسيطةُ من البرد......
اعصابى مشدودة ُ قى قلق ٍ عنيف , . اشغلتُ نفسى قليلا ً فى النظر فى الصور
المشنوقة ٍ المعلقة ٍ على الحائط , ونظرت الى الوجوه مرة ً اخرى .. اكلُها تعانى ما أعانيه انا . ؟أكلها تعانى ما اعانيه من مرارة ٍ وقرف ٍ واحزان ؟ اكلها تحسُ بالاحتراق ِ والحسرة ِ والخوف .. تشاغلتُ فى احصاء بـــــــلاط
الغرفة والتدقيق البليد فى اشكال رسومها وذهنى مرتبطُ فى الباب المغلـــــقِِ ِ
امامى ((متى يحينُ دورى ))فاساٌ ق ُ الى مقصلة ِ السخرية . تحسستُ للمـــرة
العاشرة ِ ورقة الطبيب ..تذكرت ُ كلماته ِ لى (( عفاف .. ليس عندها اية مشكلة
سنحاول ُ معك انت .. فان كان هناك امل ..سنحاول قدر الامكان )).
عواصف ُ رمليّةُ من الرعب والقلق ِ تمارس ُ ازعاجها َ داخلى .. وعندما حان دورى شعرتُ كانما بحرُ من الماء البارد قدانسكب فوقى دفعة ً واحدة ..
لم اشاهد ْ دهشة ً فى وجوه الحاضرين .. فانتزعت ُ مسامير َ خوفى وترددى
ودخلت ٌ الى مكتبه . كانت ابتسامه ُ الهادئة ُ يداً اخرى تساعد نى على خلع
رداء خجلى قال ( تفضل ..اية ُ خدمة .. مما تشكو ) اواه يا سيدى ماذا اقولُ
لك .. هل ابوح ُ لك بكل مخاوفى ؟ هل اسكب ُ بين يديك َ كل َ رعبى وقلق َ
زوجتى (عفاف) المتنامى ؟؟
لا اشتكى شيئاً او ألماًَ .. ولكننى اشعرُ اننى منبعُ لاحزان العالم.. وسيدُ القلق
الشوكى المزروع ُ فى الاعصاب .
لم اقلْ لهُ حرفاً ..لعلنى لم اعد امتلك القدرة َ على الكلام ...ناولته ُ ورقة الطبيب..نظر اليها بامعان وابتسم َ رافعا َ رأسه ُ نحوى قائلا (( هل انت مستعدُ
يا سيد سمير ؟..ان كنت مرهقاً جسديا ً تستطيع ُ ان تمر بى غداً .. صباحا ً ام
مساءً )) اواه لا ,,لا ,,لا استطيع الانتظار ..لقد خنقنى الوقت ُ أنشوطة ُ
اللحظات قد احكمت الالتصاق حول عنقى ..(( انا جاهز ُ لست ُ مرهقا ابداً)
(( تفضل )) ناولنى أنبوباً زجاجيا ً معقما ً ..اشار فى طرف أصبعه الى باب
أمامه قائلآ (( ان سمحت ْ قليلا من ....)) ةابتسم مرة اخرى ...اواه يا عفاف
كم شعرت ُ بقسوة ابتسامته ِ الساخرة ِ ..وباحتقار لذاتى ..وله وللعالم ..اواه ما
أقسى اقدارنا بعض الاحيان ..لقد تركتُ هذه العاده القذرة منذ زمن طويل ..
لم امارسها منذ زمن المراهقة ؟؟ وكدت ابكى من خجلى لولا انهُ تدارك الوضعَ المحرج َ لى قائلا (( شىُء عادى جدا ً يا سيد سمير ..عادى ..عادى )
انتزعتُ اقدامى الثقيلة عن الارض واتجهُت نحو التواليت وفى يدى الانبوب
كم شعرتُ به ثقيلا ..كبيراً ..بشعاً يفتحُ ثغرهُ كامواج بحر ِ هائج ؟؟ ما ذنبى انـا
لاحمل كل َ هذا العذاب .. لماذا تحاصرنى عيون الاهل ؟ وفى وحشية قذرة ...
وتنحرنى أهاتك القاتلة يا عفاف .
وعندما خرجتُ من التواليت كنتُ مرهقَ الاعصاب ِ ..محمرَ الوجه ..ناولتهُ
الانبوب دون ان انظر اليه قال (( ان شئت َ أعطيك اسماَ ً اخر (باسم) ..تراجعنى مساء غد ... وسجل امامه اسم باسم .
خرجتُ ليغسلنى هواءُ الشارع العام .. تفلت ُ بكراهية ٍ عندما تذكرت ُ قولـــه
ـاعطيك اسما ً اخر .. اواه حتى اسمى بدأتُ اخجلُ منه ..وددتُ لو اعود اليه
اصرخ ُ به قائلا (( ضع اسمى كاملا ..لا اخاف واماذا ؟؟لكننى تهتُ بالشارع
مذهولا حزينا قرفاً ... ما اقسى اقدارنا يا عفاف ؟ لماذا خصنى الله ُ بحنق العطاء فى جسدى ؟؟ما اقسى ما ازرعهُ فيك ِ .. موتا ً مرتعشاً كل ّ ليلة ....
ارجوك يا عفاف أارفعى عينيك ِ عنى ..تحرقانى بصمتها الباكى ..بحزنهمـــا
الازلى فانا قادر على منازلة العالم الا انت ِ .
تهتُ بالشارع العابق بكل انواع البشر ..تصورت نفسى احملُ تابوتاً كبيراً
على رأسى كلّهُ اطفال ُ مخنوقون من ليلة الخلق ..حاولت ُ ان اوزعَ احزانى
على العالم فلم تنضب ْ ..كلهم ُ يضحكون ..يثرثرون فى صخب ِ وسرعه ..
وانا مثل ُ ذبابة قذرة حطت على جدار قصر لامع .
دخلت ُ الى دكان جانبى .. تناولت ُ كأساً من العصير ..اشفقتُ لمنظر ِ ام
تبحثُ فى ثنايا محفظتها عن قطعة نقد لتسقى َ طفلها عصيراَ ..حاولت ُ ان ادفع عنها رمقتنى بنظرة ٍ جمدت يدى . احتى انت ِ يا امرأة تعرفين عارى ؟
راقبتُ العابرين فى الشوارع ..هل ضرورى ان ازيدَ نسل َهذا العالم ..؟؟ان
به ما يكفيه..الطفولة ُ تعب ُ وشقاء ..ازعاج ُ يا عفاف ..لا تحرجينى ..لا ..لا
هل ضرورى ان ننجب اطفالا ؟.. وهمت ُ مع السؤال حتى اتعبنى التّجوال ..
ليس لى رغبة ُ بالعودة الى البيت او الوظيفه ..اخاف ُ عيونك الحلوه تسألنى
مرة ُاخرى (( ماذا قال لك الطبيب ُ .. ماذا كانت النتيجه )) اعرف ُ انك ِ لا
تصرخين ..اروع ُ امرأة انت فى العالم .. ولكننى أقراُ فى عينيك كل َ ما تخجلين من قوله لى ..أقرا السوال َ على مساحة عينيك .. وعندما تغلقينها
أقرأهُ على رقة الجفون .
(( ماذا يا حبيبى سمير ..ما بك حزينا َ ))
(( لا شىء يا عفاف ..قرفت ُ من نفسى اليوم ..شعرت ُ بظلمى اليك ..)) لم تنطق حرفاً ..نظرت نحوى بعيونها الرائعة الجائعة لاحتضان طفل .. فى
ارتعاشة ِ يديها وهى تسكب ُ الشاى لى ..هزة ُ الخوف والرجاء .
امسكت ُ في يدها برقة وحنان ((عفاف ..غداً نستطيم ُ ان نقرر كل شىء
ان لك حرية القرار حتى موتى ز
نظرت نحوى بحذر وقلق ..لمحت ُ الذل َ والرجاءَ والانوثة الباكية َالحزينة
سمير ماذا تقصد يا حبيبى .
لا اقصدُ شيئاً يا عفاف وهل لى القدرة ُ على التعبير امامك ؟أمسكتُ فى
رأسى .. تشجنت اصابعى وهى تخفى وجهى الغارق فى قلقه وحزنـــــــه
الدامى المفجع . لم اقل شيئا ً او حرفاً .. كنتُ مرهقا ً تعباً وفارغاُ من الداخل
أواه يا عفاف .. انا واقفُ على رأس دبوس ان تركتهُ سقطتُ فى النار..وان
لم اتركه ُ ياكل ُ من لحمى ..اواه يا عفاف ..انا مستعد ان ادفع كل سنوات عمرىمقابل ان ارزق بطفل ..ليس لى لاجلك انت يا عفاف ..لاكمال انوثتك
امومتك ..لاننى احبك يا عفاف ..احبك حتى حدود القهر والبكاء الرجولى
القاتل .
(( سمير نحن لا نمتلك ردا ً للقدر .. لا تعنى المحاولة اننى اجبرك َ على شىء
انت لا نستطعيه ..هى محاولة وفحوصات فلماذا لا نحاول ..ان كان هناك اى
علاج فلا عيب ُ وان لم ..))
نعم يا عفاف ان لم فلك ِ حرية ُ الاختيار. وانطلقت ُ من يديها تذلنى دمعتى
.. وترعبنى صدى زفراتها الحاره .
منذ ان تعارفنا وانتِ تحلمين بطفل رائع يا عفاف ..لا زلتُ اتذكر كلماتك
( هو قمة ُ العطاء فى حبنا ..سوف اعتنى به ادلله ُ تجعله ÷ زسنة حياتنا وكل
اطفال الحارة ..كم احب ُ منظره قبا ان اراه))وتصورت ُنفسى بدون عفاف
رجلا بلا ظل ِ ..بلا انتماء انسانى .. اعود للبيت بلا رغبة للحب ِ ميتــــــــةث
عواطفى ..مُهمل ُ الاعتناء بكل مظاهرى ..تصورت ُ نفسى أعمى تداهمه
عواصف فى قارعة الطريق ..يضيع ُ ..يضيعُ ..اواه لا تتركينى يا عفــاف
..لا ..لا تتركينى ؟
لم انم تلك الليله ..عانقنى السهر الموجع .. ورافقنى الخوف والقلق حتى بوابة
الفجر .. كنت ُ اراقبُ عفاف الملتفه بجسدها الدافىءتاشهى حولى .. لم يثرنى
جسدها الرائع ثلك الليله .. تصورت نفسى ازرع ُ فيها موتا مرتعشاً لا اكثر..
(( ما اروع جمالك يا عفاف .. وما اقسى قدرى عليك ِ ))
انا لست بحاجة ٍ الى طفل لاثبت للعالم رجولتى ؟؟لكننى لا ارغب فى اهانة
امومتك ِ ورغبتك ِ امام العالم ..ما اسخف ما قررنا قبل ايام فى الذهاب الـى
الطبيب ..لم يكن يخطر ُ ببالى هذه الكارثة ...كيف اقنعتينى بالذهاب معــــك
ليقول لى أمامك ِ (( سيد سمير ..ارجوك ان تعمل لى فحصا ًمخبرياً غدا ً..
وتحضرُ لى النتيجة ,,فعفاف لا غبار على امومتها ..)) وقال الكثير الكثير
ليصفعنى .. ليبصق َ على وجهى امامك ِ .. اكنت تعرفين النتيجه ؟؟ اكنت ِ
تريدين اذلالى .. وكيف سمحت ِ له ان يوسمنى بكل هذه الاهانات .
اشعلت سيجارة اخرى .. قبل ان تفيق عفاف من نومها ..لملمت رداءها
حول جسدها العابق برائحة الراحة الشهية هاربة الى المطبخ لتعود لى
بفنجان من القهوة .. وابتسامة رائعة .
ساعاتُ هذا اليوم اثقلُ من سنوات عمرى ..اشدُ طولا ً ..واحساسى بالهزيمة
يجمدنى الى درجة الخوف ..يشلُ تفكيرى .. فخوفى من فقدانك ِ امام اصرار
اهلك والناس على (مولود لنا ) ..يجعلنى اتمنى لو ان الزمان يتجمد ...فلا
قيمة لى بعدك يا عفاف ..خوفى يكبر حجما ً مع الساعات ..مررتُ بباب المخبر ألف مرة ..رايتهُ باباً مضيئاً بالحياة مرةً .. وبابا قاتلا ً ألف مره ...
تسكعت ُ بالشوارع طويلا ..لم اشعر بالجوع والتعب ..فقد كنت ُ خائفـــــاً
مرتجفاً من مراجعة المختبر ..من النتيجة .. كل ُ ابتسامات العالم الناس لا
اراها الا اطفالا ً ما اسعد الناس فى اطفالهم ِ.
عدت ُ الى باب المختبر مرة اخرى بعد ان انهكنى التعب ..رمقت ُ الموجودين فى خوف ٍ وتوتر ..عيونى متحجرة ُ على باب غرفتةِ مرة اخرى
أواه يا احزانى لا تتنامى اكثر فاكثر .. وعندما خطوت ُ الى بابه ِ لم اشاهده
هو ..كان هناك رجل ُاخر قال لى بعبوس ((اية خدمة ))قلت بصوت خافتٍ
جداً (( لي نتيجة ُ فحص ))
أزدادات دائرة ُ العبوس اتساعا ً فى وجهه ِ وهو يسألنى (( ما الاسم ))
قلت له ُ ((سمير )) ،،بحث فى الاوراق المتراكمة أمامه ..كأنه يبحث عــن
معاملة جواز سفر .. وشاهد اسم سمير وناولنى الوريقة قائلآ ((كل شــــــىء
جيد ُمعك ,,فلا خوف ..ثلاثة دنانير ))
لم اصدق ْ ..كدتُ اسقط ُ على الارض ..هزّنى صوته ..تناسيت ُ عبوسه
..عانقته ُ فى جنون أذهله الى لحظات .. وبلحظة واحدة تمزقت احزانى
ومخاوفى .. رايت ُ فرح العالم في بسمة طفل ْ.. وتسمرت الدهشة ُ فـــــى
فى عيون المرضى الموجدين عندما قفزت ُ فى فرح طفولى فوق الدرجات
..ركضت ُ فى الطريق ..تعثرت ُ مراراً ..رايتُ نفسى اكبر َ من العالم كله..
اشدَ رجولة من الكثيرين ..احتضنت عفاف فى جنون وحب ولهفة ..كاننى
اراها للمرة الاولى (( أواه يا عفاف لكم كنت ُ خائفاً من فقدانك ِ .. لا خوفَ
من بذرة الرجولة عندى ..لا خوف .))
لكم ارهقنى اهلى من اجلك يا سمير ..كنت خائفة ً من البعد عنك عندمــا
تفشل ُ النتيجة .
وعندما أويت الى الفراش ..لسعنى سوطُ الحقيقة ؟؟فتح الخوف ُ ثغره الاسطورى مرة اخرى وابتلعنى ..فقد تذكرت ُ شيئا ً أسقطنى فى بئر ماء
باردة مرة اخرى ..فانا لم اسجل على ورقة الفحص أسمى سمير ..لقد
سجلتهُ باسم (باسم ) وبكلء هدؤ وصمت فتحت ُ وريقة النتيجة .. وصرختُ
بعنف مزق هدؤ الليل عندما شاهدت ُ الاسم عليها ..
استيقظت عفاف ...وبكت معى .
انتهت