المغرب - *محمد الصدوقي :تعتبر البطالة آفة ومعضلة العصر بامتياز "وخاصة فى عالمنا العربي"؛ وهى ظاهرة مركبة لها عدة أبعاد: اقتصادية، سياسية،اجتماعية ونفسية وتربوية وقيمية؛ وتعتمل فيها عدة عوامل على مستوى الأسباب والحلول.
أسباب البطالة
-البعد الاقتصادى للبطالة: ويتعلق الأمر بنمط الإقتصاد المعتمد فى مجتمعاتنا العربية، حيث يبقى إلى حد كبير تقليديا وفلاحيا ضعيفا، ولا يرتبط بالقطاعات الاقتصادية المعاصرة والمنتجة للخيرات والشغل، كالقطاعات الصناعية الكبيرة والثقيلة والقطاعات الخدماتية الحديثة، والقطاعات التكنولوجية..."رغم ما يسجل من نمو طفيف لهذه القطاعات فى بعض الدول العربية". هذا بالإضافة إلى التبعية الاقتصادية للمراكز الرأسمالية الأجنبية، حيث تبقى اقتصادياتنا مستهلكة فى أغلبها.
بالإضافة إلى أن بعض الإختيارات الليبرالية الرأسمالية لسياستنا الاقتصادية، التى ترتمي، دون حساب العواقب الوطنية، فى أحضان إملاءات الدوائر الرأسمالية الغربية، من خلال الانخراط فى اختيارات الخوصصة، والانفتاح اللامشروط على رؤوس الأموال الأجنبية، وتطبيق نظام السوق الحرة عوض التخطيط الاقتصادى والتأميم وانسحاب الدولة، والاتفاقيات الثنائية أو الدولية"اتفاقية الغات". كل ذلك يتم دون الوعى بعدم أهلية وقوة اقتصادياتنا لخوض غمار المنافسة الدولية الشرسة. "فمثلا، أمريكا وبعض الدول الغربية لم تقدر على المنافسة الصينية واليابانية فأصبحت تتفاوض من أجل تقنين صادرات هاتين الدولتين، فما بالك باقتصادياتنا الضعيفة". كما انه لا يتم غالبا التأكد المعرفى والتطبيقى والديمقراطى من نجاعة هذه الاختيارات الاقتصادية غير المحسوبة، والتى لن تنتج سوى مزيد من جيوش البطالة، والزج بالاقتصاديات الوطنية نحو المجهول. إن مثل هذه الاختيارات، قد تحل جزئيا ومرحليا بعض مشاكل البطالة، وقد تغنى بعض الفئات القليلة من رؤوس الأموال، وقد تحرك بعض القطاعات الاقتصادية المحدودة، لكن الإختلالات البنيوية ستظل قائمة وستتعمق أكثر، ما دام لا نملك اقتصاد وطنى عصرى وقوى ومستقل نسبيا.
-البعد السياسى للبطالة: ترتبط أيضا بطبيعة الاختيارات السياسية المعتمدة فى القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وبمدى اعتماد استراتيجيات ومخططات حقيقية ومواطنة لتقوية منظوماتنا الاقتصادية والاجتماعية...فالاختيارات الرأسمالية أثبت تاريخيا وواقعيا عدم ملاءمتها لطبيعة مجتمعاتنا التقليدية والإقطاعية، وسيادة اقتصاد اللوبيات والريع والإمتيازات والرشوة، والزبونية والعائلية... حيث تتكرس يوميا الفوارق الطبقية والفقر والبطالة... دون ان نتحدث عن ابتلاع المقاولات الديناصورات للمقاولات المتوسطة والصغيرة، وأرقام تسريحات العمال وغلق بعض المقاولات والمعامل كافية لفهم الوضع الاقتصادى الوطنى الخطير، والمنذور للمزيد من التأزم والاختلالات.
كما لا يمكن أن نستثنى موضوعيا العوامل السياسية الدولية فى تأزيم الغرب لاقتصاديات الجنوب من خلال احتكار الثروات والأسواق العالمية، وفرض سياساتها واختياراتها الاقتصادية الهيمنية ومن طرف واحد، والتى تخدم مصالحا الاسترتيجة والوطنية فقط دون تطبيق قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان فى المجال الاقتصادى الدولى من أجل الاستفادة المشتركة من ثروات وأسواق العالم، وبالتالى التخفيف من حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لدول الجنوب.
-البعد النفسى والتربوى والاجتماعى والقيمى والثقافى للبطالة: أكيد أن البطالة كنتيجة، تساهم فى تكريس عدة اختلالات فردية وسوسيولوجية وثقافية مركبة؛ حيث نلاحظ تفشى الفقر وتفكيك الروابط الأسرية والمجتمعية، الأمية، الهدر والتسرب المدرسيين، الجريمة ،العنف، الفساد، الانتحار، الأمراض النفسية والعقلية، الإستيلاب الإستهلاكي، الاتكال، اللامسؤولية، كراهية العمل، تفشى نماذج سياسية واقتصادية وتجارية للترقى الاجتماعى السريع وغير الشريف...
كما نلاحظ أن نظام التربية والتعليم ظل منذ عقود لا يربط التعليم بسوق الشغل ولا يربط الإقتصاد الوطنى بالتعليم والبحث العلمى والتكنولوجي... حيث لم ننتج يد عاملة أو كفاءات مهنية مؤهلة للتكيف مع الإقتصاديات الجديدة وقادرة على الإبداع والإنتاج... لكن يجب كذلك توضيح مسألة علاقة نظام التربية بسوق الشغل، لأنه غالبا ما يتم تحميل المسؤولية للنظام التربوى فى إنتاج البطالة. وهذا إلى حد ما صحيح، نظرا لعتاقة بعض المناهج التربوية بيداغوجيا ومعرفيا ووظيفيا فى علاقتها بالمجتمع وسوق الشغل. لكن هل سوق الشغل الوطنى هو الآخر مؤهل لاستبقال خريجى النظام التعليمي؟ الكل يعرف طبيعة المقاولات الاقتصادية فى بلداننا: تنظيم تقليدي، لا يعتمد على التأهيل الحداثى لنظام التدبير والتنظيم، ضعف الرأسمال والإنتاج المنافس، سيادة العائلية والزبونية والرشوة والريع ولوبيات الاحتكار المحدودة، التملص من الضرائب وتطبيق القوانين وغيرها من مظاهر الفساد الاقتصادي، عدم تبنى واحتضان أغلب المقاولات للبحث العلمى والمساهمة فى تمويل المؤسسات التعليمية العامة او المتخصصة،عدم تنويع الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المتنوعة والمنتجة للنمو واليد العاملة المتعلمة "غالبا ماتستثمر فى القطاعات التقليدية المربحة كالعقار، والترفيه والتغذية، والتجارة...". كما لا يمكن تجاوز مسؤولية الدولة فى الانسحاب التدريجى من قطاع الشغل، سواء كمشغل أو كمنتج فى القطاعات العمومية والاستثمارية الاقتصادية والخدماتية، حيث كانت الدولة الوطنية أكبر مشغل فى المجتمع، قبل تبنى الاختيارات الرأسمالية واللبيرالية فى اختياراتها المجتمعية.
الحلول: نبذ التبعية
ترتبط الحلول لآفة البطالة بتجاوز كل الإختلات والسلبيات السالفة الذكر، واعتماد اقتصاديات عصرية وقوية وغير تبعية، ومراجعة الانخراط اللامشروط واللامحسوب العواقب الوطنية فى اختيارات نظام السوق وتحرير الأسواق وانسحاب الدولة لصالح الرأسمال، ربط النظام التعليمى بالإقتصاد والعكس، واستعادة حرية واستقلالية ووطنية القرار السياسي، واعتماد استراتجيات وتخطيطات مجتمعية لخلق مناصب الشغل والتحكم في النمو الديمغرافي، وإشاعة قيم وثقافة الشرعية، والإجتهاد والكفاءة وحب العمل والإنتاج والعمل، ومحاربة اقتصاد الريع والرشوة والمضاربات والاحتكارات اللوبية سواء فى القطاع الخاص او العام، مساهمة الدولة القوية في الإقتصاد وخلق مناصب الشغل عبر أسلاك الوظيفة العمومية، ومراقبة المال العام من التبديد والسرقة، وتكريس دولة الحق والقانون والعدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة، اعتماد اختيارات وطنية واجتماعية ديمقراطية ومواطنة حقيقية للنمو الاقتصادى والاجتماعي، للقضاء الجدى على ظاهرة البطالة، ولتقوية منظوماتنا الاقتصادية والاجتماعية الوطنية عامة، وذلك انطلاقا من مشاكلنا وخصوصياتنا وحاجياتنا الوطنية المحلية أولا واخيرا. وأملنا أن يسود مجتمعاتنا وعالمنا قيم العدل والقانون والديمقراطية وحقوق الإنسان فى كل المجالات، حتى نضمن للكل، أفرادا ومؤسسات ودولا، حقوقه وكرامته فى العيش والوجود المشترك.
الأسوأ عالميا
وتعتبر البطالة إحدى أخطر المشكلات التى تواجه الدول العربية، حيث توجد بها أعلى معدلات البطالة فى العالم. وحسب تقرير لمجلس الوحدة الاقتصادية التابع لجامعة الدول العربية، قدّرت نسبة البطالة فى الدول العربية ما بين 15 و 20 ٪. وكان تقرير منظمة العمل الدولية قد ذكر ، أن متوسط نسبة البطالة فى العالم وصل إلى 6.2 ٪ ، بينما بلغت النسبة فى العالم العربى فى العام نفسه 12.2 ٪.
وتتزايد سنويا بمعدل 3 ٪. وتنبأ التقرير بأن يصل عدد العاطلين فى البلاد العربية عام 2010 إلى 25 مليون عاطل. وما يجعل هذه القضية من أكبر التحديات التى تواجه المجتمعات العربية، هو أن 60 ٪ تقريبا من سكانها هم دون سن الخامسة والعشرين.
ووصفت منظمة العمل العربية، الوضع الحالى للبطالة فى الدول العربية بـ”الأسوأ بين جميع مناطق العالم دون منازع”، وأنه “فى طريقه لتجاوز الخطوط الحمراء”. ويجب على الاقتصادات العربية ضخ نحو 70 مليار دولار، ورفع معدل نموها الاقتصادى من 3 ٪ إلى 7 ٪، واستحداث ما لا يقل عن خمسة ملايين فرصة عمل سنويا، حتى تتمكن من التغلب على هذه المشكلة الخطيرة، ويتم استيعاب الداخلين الجدد فى سوق العمل، بالإضافة إلى جزء من العاطلين. وأكد مشاركون فى “المنتدى الاستراتيجى العربي”، أن على صناع القرار فى العالم العربي، التخطيط لتوفير ما بين 80 و 100 مليون فرصة عمل حتى العام 2020، حيث يبلغ حجم القوى العاملة فى الوطن العربى حاليا 120 مليون نسمة، يُضاف إليها كل عام ثلاثة ملايين و400 ألف عامل.ويؤكد تقرير منظمة العمل العربية أنه لم تعد هناك دول عربية محصنة ضد البطالة كما كان يعتقد قبل سنوات، وخاصة فى دول الخليج العربي، حيث يبلغ معدل البطالة فى السعودية ـ أكبر هذه البلدان حجماً وتشغيلاً واستقبالاً للوافدين– نحو 15 ٪، وفى قطر 11.6 ٪. أما فى باقى الدول العربية، فلا يختلف الوضع كثيرا.
والبطالة فى العالم العربى متباينة دون شك بين الأقطار لكنها تبقى مرتفعة جدا مقارنة ببقية البلدان، وهى متفشية فى البلدان التى تقدم نفسها وتصفها بعض التقارير بأنها بيئة ملائمة للاستثمار مثل المغرب ومصر، كما تنتشر فى البلدان التى لا تشكل بيئات استثمارية ملائمة بحكم عدم الاستقرار السياسى والأمني، الذى تشهده، مثلما هو الحال بالنسبة للصومال والجزائر ولبنان واليمن وكذلك فى الأقطار المحتلة كالعراق وفلسطين، حيث تصل معدلات البطالة حسب بعض التقديرات إلى 60 ٪. وتنتشر البطالة أيضا بمعدلات عالية فى الأقطار النفطية ذات الموارد المالية الهائلة مثل قطر والإمارات والسعودية. وهى ظاهرة متفشية فى الوسطين الحضرى والريفي، وتشمل اليوم مختلف الشرائح الاجتماعية، ومختلف الفئات العمرية، والمستويات التعليمية، لكنها متفشية بشكل كبير فى أوساط الشباب المتقدمين لسوق العمل لأول مرة، وهى شائعة فى صفوف المتعلمين من خريجى التعليم الثانوى والتعليم الجامعى على حدّ سواء، وهو ما تعبر عنه خاصة الأوضاع فى مصر والمغرب والجزائر ولبنان. والبطالة التى تعكس ضعف الاقتصاديات العربية وعجزها عن توفير مواطن الشغل “للقادرين عن العمل والراغبين فيه والباحثين عنه”، تطرح مشاكل أخرى شديدة الخطورة، فللبطالة آثار سلبية عديدة وخطيرة على حياة الإفراد والمجتمعات: فالفقر، والأمراض النفسية، وكراهية المجتمع، والانحراف نحو الجريمة بمختلف أشكالها، وممارسة العنف، كلها تعبيرات عن الأزمة التى يواجهها الأفراد فى مجتمعاتنا العربية، وهى على صلة وثيقة، إذا دققنا النظر، بحالة البطالة المتفشية. ولاشك أن هذه المشاكل المختلفة تزيد فى تعميق أزمة الاقتصاديات العربية، بما تتطلبه من ضخ لأموال طائلة لمواجهتها، فتساهم بذلك فى إعاقة الجهود المذولة فى مجال التنمية. وتتعدد الأسباب المفسرة لتنامى البطالة بشكل مفزع فى المنطقة العربية، وهى أسباب تتردد كثيرا فى التقارير الحكومية ودراسات الخبراء المعنيين بقضية التشغيل، وكثيرا ما تم حصرها في:
النمو السكانى الذى يتم بنسق أسرع من النمو الاقتصادي.
الانتشار الواسع للتكنولوجيات الحديثة فى عملية الإنتاج.
تراجع دور القطاع العام فى التشغيل، مع تنامى تحرير الاقتصاديات العربية، وربطها بالسوق العالمية، وهو قطاع يشكو ضعفا فى الإنتاجية، وغير مؤهل لاستيعاب طالبى الشغل.
ضعف القطاع الخاص الآخذ فى التوسع منذ التسعينات وعجزه عن استيعاب طالبى العمل.
طبيعة التعليم فى المنطقة العربية، والذى غلبت عليه التخصصات الموجهة للعمل فى القطاع العام، وهو ما جعل خريجيه عاجزين عن العمل فى سوق آخذ فى التبدل نحو الخوصصة، ومستقطبا لأصحاب المهارات.
وجهود الحكومات العربية لمواجهة مشكلة البطالة والحد من آثارها السلبية على مجتمعاتهم غير خافية، فالسنوات الأخيرة شهدت الكثير من الإجراءات الهادفة لمواجهة هذا التحدى الخطير، والحكام العرب كثيرا ما أكدوا فى خطبهم، خلال السنوات الأخيرة، على تكريس جهودهم لحل مشكل العاطلين. والمتتبع للسياسات العربية فى هذا المجال يلاحظ الكثير من الخطوات، التى اتخذت فى هذا البلد العربى أو ذاك. ويمكن الملاحظة أن هذه السياسات قد اتجهت نحو مزيد من الدعم للاستثمار الخاص المحلى والأجنبي، وتشجيع المشاريع الصغرى والمتوسطة وبرامج التكوين والتأهيل فى محاولة لجعل طالبى الشغل يستجيبون لمتطلبات السوق، هذا فضلا عن تغييرات جوهرية فى مستوى برامج التعليم لاسيما الجامعي، حيث تنوعت التخصصات التى تلبى احتياجات أصحاب العمل، وتم تقليص التخصصات المفضية للقطاع العام كالتعليم والإدارة وغيرها، وبالمقابل تواصل تراجع دور القطاع العام فى العملية التنموية وكإطار لخلق فرص عمل جديدة تحد من ظاهرة البطالة. لكن رغم أهمية هذه الإجراءات، وأهمية الأموال التى صرفت من أجلها، ورغم مضى عديد السنوات منذ بداية اعتمادها كما هو الحال في مصر والمغرب وغيرها من البلدان، فإن مشكل البطالة مازال يشكل تحديا خطيرا. وحتى نقف على حقيقة هذا المشكل يكفي أن تحدث أي مواطن عربى عن ظروف الحياة فى بلده، وعن فرص العمل المتاحة، حتى تجده يحدثك عن الصعوبات التي يوجهها العاملون في معيشتهم اليومية، وعن انتشار واسع للبطالة طال جميع الشرائح الاجتماعية، بل أصبح الناس يتحدثون عن عجز بعض الموظفين الكبار فى الدولة عن توظيف أقاربهم وأبنائهم، ولا يستطيعون التوسط فى عملية التشغيل. فالجهود الكبيرة التي بذلت في إطار مواجهة البطالة لم تفض إلى حلول جوهرية، بل إن المشكل آخذ فى التفاقم بحكم أفواج العاطلين المتزايدة كل سنة. وقد أشارت بعض التقارير المعنية بشؤون العمل فى العالم العربى إلى أن البطالة ستشمل 25 مليون عاطل سنة 2010.
الملفت للانتباه أن تفشى ظاهرة البطالة، وانتشار الفقر، وتدهور القدرة الشرائية، قد تزامنت جميعها مع نمو اقتصادى بمعدلات إيجابية على مستوى الأقطار العربية، وكثيرا ما أشادت هذه الأقطار بأهمية معدلات نموها. فحاليا هناك طفرة اقتصادية فى البلدان العربية تقف ورائها بشكل رئيسى عائدات النفط يعكسها معدّل النمو الذى بلغ 5,6 ٪ خلال 2004 و2005 مقابل 3,6 ٪ خلال التسعينات من القرن الماضي، لكن فى مقابل هذه الطفرة الاقتصادية لا يزال تحدى البطالة يشكل أحد أبر التحديات التى تواجه الحكومات العربية. إن هذه المفارقة تستدعى النظر والتحقيق، لأنه من المفروض أن تنعكس نتائج النمو الاقتصادى إيجابيا على أوضاع السكان، بتوفير مواطن الشغل، وتحسين مستوى العيش، وتقليص ظاهرة الفقر وغيرها من المشاكل، لكن الذى حصل هو العكس. هذه المفارقة تدفع للاستنتاج بأن النمو الاقتصادى قد تحقق على حساب مستوى عيش السكان، وعلى حساب أعداد متزايدة من العاطلين، الذين لم يستوعبهم سوق العمل، أو ممن لفظهم هذا السوق، الذى يعمل أرباب العمل فيه على تحقيق أوفر ربح، من خلال تقليص تكاليف الإنتاج، وفى مقدمتها الضغط على العمالة، سواء فى مستوى الأجور، أو فى مستوى العدد، مستعيضا عنها بالتكنولوجيات الحديثة.
إن النمو الاقتصادى الحاصل، والبطالة المتفشية، وفقر العمال الآخذ فى الاتساع، يعكس تركز الثروة عند قلّة من الناس على حساب الأغلبية. وهنا يتكشف عمق الأزمة التى يواجهها العالم العربى فى هذا المجال، فهذه الأزمة هيكلية لا يمكن التعاطى معها باتخاذ جملة من الإجراءات والسياسات العلاجية، ولا يمكن النظر إليها بمعزل عن المنظومة الاقتصادية الرأسمالية المهيمنة حاليا، فهذه المنظومة قد استفادت من انهيار المنظومة الاشتراكية، ومن التكنولوجيات الحديثة، ومن توظيف مختلف المؤسسات المالية والدول النافذة فى العالم، لتفرض نموذجها التنموى الليبرالى على الأقطار العربية، التى اتخذت سياسات انفتاح منفردة على اقتصاديات مصنعة قوية، وشركات عملاقة، لا تقدر على منافستها، والتصدى لسياساتها فى المنطقة.
* محمد الصدوقي - كاتب مغربي
*المصدر:جريدة العرب الأسبوعي
ملاحظة:المعطيات الإحصائية من اقتراح الجريدة الناشر