ذاك مساء جميل حين غادرت المنزل ، لم أكن أعرف الى أين أذهب ، كل ما كنت أريده هدوءا في حجم الليل، لا أعرف كيف خانني زمني وتنكر لي من أحبهم بقوة ، للأسف عوقبت على جرم لم أقترفه، مضيت في الشارع الكبير وحيدا تائها في مدينة نائمة تحن كثيرا إلى مجد غابر، بدت لي أجساد ممتشقة جذابة وعيون أخذها الأرق تدور في اتجاهات مختلفة... سألت نفسي :
_أهذه مدينتي ؟ أهذه ابناؤها ؟
كل هذا الفضاء ضاق بي ، قادتني قدماي إلى مكتبة تعودت ارتيادها ، اخترت كتابا عن الحاسة السادسة وآخر عن حرب الخليج الثانية، ألح علي سؤال كبير :
_ إلى أين المسير؟
تقدمت خطوات إلى الأمام، رأيت حانة، أغرتني بالجلوس فيها فدلفت إليها، اخترت الركون خلف الواجهة الزجاجية... طفقت أطل بعينين حزينتين إلى الشارع الرئيس ، رأيت الأمواج البشرية أشباحا تتراقص أمامي، بعض الوجوه كنت أعرفها...في هذه اللحظة حاولت أن أهرب بعيدا لكني سمعت صوتا جبارا يخاطبني :
_ لكن إلى أين ؟
راقت لي الوحدة فعلا ... توحدت مع فضاء غامض يؤثثه رواد قلائل، ذلك يتيح للمرء أن يتعمق بفكره في مسائل كثيرة تؤرق وجوده، شملتني راحة عميقة، تمايل دخان سجائري وملأ الفضاء، تمعنته جيدا ، كأني به يتدلل ...أحسب الأن نفسي سعيدا لأنني أخذت أتخلص من بعض الأوهام، أو هكذا شبه لي ...ذلك لأن الأوهام في كثير من الأحيان تقتل وربما كان دونكيشوت من أعظم ضحايا الوهم...الوهم كالأسطورة...يعبر عن مرحلة الطفولة في حياة الإنسان، هو ذاك الوهم، تجده يتجدد حسب العصور فيغير جلده كالثعبان الأرقط .
الجعة اتخذت طريقها الى شراييني، راقبت دخان سيجارتي، تاه عقلي عندما أخذه طوفان الغضب بعيداوسرحت بنظري إلى الشارع ...غريب أنا في مدينة أسطورية، قلت لنفسي :
_ماذا أريد ؟
وقتها كان كل شيء مشلولا في ...آه من لحظات الحقيقة هاته ... الأرض الجرداء، الثعابين والعقارب، الوجوه الجامدة، الأفق البعيد الذي تحاصره جبال عالية...كلها مرت بذهني في سرعة وضخ في دمائي حزنا دفينا، والمساء يفنى في ذاته ...شربت بنهم حتى بدأت أحس بالزمن ثقيلا كالرواسي، جاءني بائع الورد بسلة صغيرة... راقت لي الورود الحمراء، أعطيته درهمين والبسمة لا تفارق محياي وأخذت وردة ...وردة حمراء تحيط بساقها ورقة بيضاء ، فتحتها لأقرأ السطر الوحيد المكتوب بلغة موليير:
_الحب حادث في حياة الرجل ، لكنه تاريخ في حياة المراة .
قلت لنفسي :
_ سأمنح هذه الوردة لأول امرأة أصادفها خارج البار .
الشمس ... السماء... تلتحمان، تتحالفان...شيء من الليل يزحف ...قلبت الوردة الحمراء بين يدي ..آه، خلال عامين لم تأخذ مني أي امرأة وردة حمراء ولا سوداء، كانت آخر مرة أهديت فيها وردة حمراء لامرأة في مساء ثلاثاء، كنا في صدر الربيع، ماذا تعني سنتان ؟ وماذا تعني أيام الدهر الغرقى في يم الحب ؟ تلك المرأة تواجدت في زمني مثلما تواجدت في نغوصي ، كان ذلك آخر لقاء بيننا، لم نعرف وقتها أنه الأخير، همست وهي تشد ذراعي بيدها :
_ نحن رائعان ...لما نكون معا.
مقهى باريس عانقت أحلامنا، كانت تعي جيدا بأن كل شيء قد انتهى بيننا وكانت تعي أيضا بأن محاولتنا لرأب الصدع تشبه محاولة ساموراي رفض الهزيمة وفضل الانتحار على الهزيمة...استرسلت هي في حديث قطعته بسبابتي اليمنى وقد وضعتها على شفتيها ، تألقت مثل نجم شارد وسط سماء ملبدة بغيوم رمادية، أذكر أنني اشتريت وردة حمراء ... شديدة الحمرة في لون دمي ، نعم وردة حمراء...أخذتها بين أناملها فرحة، لازلت أذكر كم ذبت في عينيها العميقتين ... فيهما سحر وفيهما نقاء وفيهما عذاب ذقت سوطه .... هي عرفت أنها الحب الوحيد لدي ... قالت لي أنت مجنون ... رائحة الورد انتشرت في المكان على إيقاع رشفات من فنجان قهوتي السوداء ....قالت لي :
_سأنتظرك حتى تعود من سفرك .
قلت بيأس:
_حقائبي تبكي لفراقك.
شعرت بأنني شربت كثيرا وعلي التوقف حفاظا على جيبي المثقل بالديون، كان الليل قد هجم وأخرجني من سفينة الذكريات وقد ترنحت فوق أمواج المفاجآت العاتية...لا زالت صورتها ملتصقة بذهني، هذه المرأة كانت أقدس ما لدي، كانت أرق النسمات وأجمل نساء الكون ...تواجدت في كل ثانية من عمري، في قلبي ودمي وقهوتي ومائي و حلمي وقد كنا كالرماد لما تحمله العواصف حين تصدح في الكون موسيقى جسدينا المتحدين، آه، كم كان رائعا ذلك العراء...
خرجت في ليل أرخى سدوله و الوردة الحمراء بين يدي تبتسم ... غصت وسط أمواج بشرية وحسبت نفسي أبحث عن شيء ضاع مني حتى ألفيت البيرة تمنح المرء تأشيرة الدخول إلى جنة الوهم...غمرتني النشوة العارمة التي أوحت لي بأن لا امرأة تستحق أن أهديها وردتي الحمراء وقد كنت حريصا عليها أشد ما يكون الحرص ، نسيم الفضاء لفني ، مصابيح الشارع حجبت عني خيوط المطر... ما أحوجني الآن إلى خلاء أسامر فيه القمر وأتلذذ فيه روعة السهر، الليل طويل وفيه متسع للتسكع في مدينة أخالها وكرا لأشباح الرذيلة... لم أكن أعرف إلى أين أذهب وأنا أتأبط كتابي وأناملي ممسكة وردتي ...أحسستها عبئا ثقيلا علي...مثل مهاجر يتخلص من زاده أثناء الخطر، رميتها على الأرض فداستها أقدام كثيرة ... بلا رحمة وبلا هوادة .