قصة : بعيدا...عن ظلال القلعة
الكاتب: ادريس الواغيش
لم يكن للمكان أن يثير فضولي ، لولا هذا الأزيز المستورد ، يقتل ببرودته صمتا ساكنا في جوفه. أطلال واقفة بلا حراك ، شاردة ومثقلة ، تتربص بها صفوف من الانتظارات والأرقام والتوقعات. علاما ت استفهام تفضح جغرافية وجوه ألفها اليأس ، شاشات حواسيب في الداخل ، تغير صورها بسرعة ، نكاية لما يحدث من رتابة في الخارج. زمن هنا وآخر هناك ، عجلة هنا ، وبطء هناك ، روتين هنا ، وجنون هناك.
مفارقات غريبة ، وصورتان مختلفتان لحياة واحدة. القاعة كبيرة ومكيفة ، والزوار يختلفون في كبريائهم وهزائمهم . نظرات حائرة بلا معنى ، كلام جامد ، تنقصه الكثير من الحميمية. تكرار آلي ، من وإلى غرف زجاجية . جغرافية الأجساد واضحة وطرية ، مرتبة بعناية ، من المدخل الرئيسي إلى آخر مكتب في جوف المكان ، تتحرك بلا رغبة ، وتحرص على مغالطة كل نظرة ماكرة ، تصر على تعقب تحركاتها ، فتعالجها بإغلاق ناعم للأبواب ، تتبعه ابتسامة مهنية ماكرة. لكنها لحظات لا تترك للعين فرصة لمغازلة الشهوة ، كل ينتظر دوره في ترقب وذهول. في هذه الأجواء ، دخل رمز من رموز الدهشة والاغتراب. رجل أعرفه قليلا ، وأجهله كثيرا، خمسيني العمر، بليغ الحرص على إتلاف الأثر من قبله ومن بعده. لا يترك لك فرصة لتعرف عنه أصلا أو فصلا. لا أحد من الجيران يعلم طبيعة عمله ، أو لأي قبيلة ينتمي . فقط ، يقال أن عمله هناك ، وأن بنته الكبرى تدرس في الجامعة ، وإن لم يصادفها فيها أحد. لكن احترام رجال السلطة له ، يثير شهية الهمس ، ويعطي لجلسات المقاهي أحيانا طعما آخر. لا يتحدث عنه الناس ، ولا عن غموضه إلا في حالات قليلة ، فقد استسلموا له ولغموضه ، وحتى لو فعلوا ، لا بد من حضور لا زمة على شكل : (ربما - قد يكون - يقال- سمعنا...) وينتهي الحديث في بدايته. لكن اليوم سيكون مغايرا. كنت أ سند جسدي المتهالك لسارية ، حينما دخل واثقا من نفسه ( أمامنا على الأقل) ، واضعا نظارات شمسية ، سوداء و مزمنة على عينيه. هو تماما وليس غيره ، هو كما أعرفه ، بجسده الضخم ، وبنيته القوية ، وشواربه المعقوفة بعض الشيء. تسبقه خطى ثابتة ومحسوبة بعناية ، أحدثت صدى في القاعة الفسيحة ، أرغمت الأطلال الواقفة للالتفات إليه ، ثم تبعهم الموظفون ، قبل أن ترفع الكاتبات أيديهن عن الأزرار مؤقتا. جلس عن يميني في الصف المقابل .
- " لعله جاء ليسأل عن مصير أوراق مثلنا ، ورسائل تطارده نهاية كل شهر ". هكذا خمنت في البداية . لكني استبعدت الفكرة تماما ، لأن رجلا في مثل أنافته ، ربطة عنق زاهية الألوان فوق بطنه المنتفخ ، مع كسوة أميرية ، و حذاء أسود يلمع كعيون سمسار محترف ، مظهر يبعده كل البعد عن شبهات الديون والأزمات. كدنا نحيي بعضنا البعض بإشارة ميكانيكية بالرأس ، كما نفعل عادة في الشارع ، لكن لأمر ما أحجمنا . قد يكون المكان غير مناسب للتحية ، أ و لسبب غامض اعترانا جميعا ، وقد يكون إحساس داخلي بالهزيمة ، أمام استبداد المكان وجبروته. أما رآني ورأيته ، فلا ريب في ذلك ، حتى لو تظاهر كلانا بالعكس. تقدم نحو موظف غارق في عالمه ، يحاور بيدين من عظام وصبر، أرقاما بشكل آلي ، غير مكترث لكل من يكلمه ، أو واقف أمامه ، كأنه يسمع ولا يرى. سأله بصوت خافت ومنكسر ، وحتى مختلف عما عاهدناه فيه ، وكأنه يخفي عن مسامعنا شيئا. حينها عرفت أن موعد اندحار غموضه قد وصل. أصخت السمع بقليل من الفضول...
- سيدي كم بقي في ذمتي ...؟
6750 درهم....
- كم...؟
يعيد الموظف الرقم ، وهو منشغل بأشياء أخرى ، دون أن ينتبه إليه..
- " شحال ..؟ ".
- هي ........
- أنا كنت حاسب غير... من أين أتى الباقي..؟
- ازداد مبلغ آخر ، نتيجة التأخر في الدفع...
- هل يمكن لي أن....
- لا يمكن...قد تزداد ذعيرة أخرى...
- سيدي ....الله يرحم والديك أنا....( في أذن الموظف هذه المرة ، وبصوت خافت أقرب إلى الشكوى...)
تدخل موظف آخر تطوقه وسامة مفتعلة ، بشعر أملس ، ذكرني بصبا البوادي ، حين كنا ندهن شعرنا بالزيت البلدي ، قبل الذهاب لملاقاة الفتيات على مقربة من (الكوليج) . كان يبدو واثقا من نفسه ، جافا في طبعه ، كأنه استنبت لتوه من ردم منجمي. نقر على أزرار الحاسوب ، تمتم في أذن صاحبه ، قبل أن ينفجر بلا حياء في وجه الرجل بكل صلفة :
- " أخويا...راه تكلمنا معاك بالدرهم ، بالسنتيم ، بالريال ،...عطينا التساع الله يرحم الوالدين".
قبل أن يضيف ، لكن هذه المرة ، قاصدا غالبية الحضور:
- " فين ما كان شي واحد ... (ربما يقصد الضعفاء ماديا ) ، جا لهاد الوكالة ... أنت بعدا ديما مصدعنا، اتفو على قوم...).
كثر الهمس بين الزبائن ، فزوار آخر الشهر كثيرون في مثل هذه المناسبات ، رد عليه البعض بكلام ولا أقبح منه ، مس عائلته وأمه على الخصوص ، تبين أن هناك من يعرفه ، توعده البعض برد خارج الوكالة ، يليق بكلامه. ذكره البعض بصغره ، طريقة دخوله إلى الوكالة كمحاسب ، ومن توسط له . تدخلت النساء الحاضرات بدورهن ، لم يعد هناك مكان للحياء ، فالشرف أحيانا يلغي الحواجز، كانت أصوات النساء تعلو تدريجيا. بدأ بعض الشباب يحفز النساء على التعبير بجرأة أكبر، معتبرين أن المسألة ملهاة لهم لا أكثر ، قبل أن يستسلموا مع غيرهم للصمت ، ولم يعد يسمع في القاعة سوى أصوات النساء . أما الرجال فقد أصبح الصمت يراقب صمتهم في صمت. وحده رجل مسن ، متقاعد يداوم على الوكالة آخر كل شهر كأغلب الزبائن ، ويعرفه الجميع تقريبا ، اضطر وحده ، بعد استكانة الجميع للصمت ، أن يرفع صوته المبحوح عاليا :
- " أيرضيكم أن يبصق الكلب في وجوهكم ؟ أين شواربكم أيها الرجال ؟. لم تعد تواتيكم ، النساء أولى بها... إنها شوارب الحريم ، اقتلعوها... ".
هنا تغيرت الأجواء للأسوأ ، علت الأصوات من جديد منددة ومستنكرة ، اختلط الموضوعي بالمزاجي . بدأ أحد الموظفين يهدد بإحضار الشرطة ، يركب أرقاما على الهاتف الثابت حينا ، و يستعمل هاتفه النقال حينا آخر. لكنه لم يمنع النساء الحاضرات ، من إسماعه المزيد من الكلام ، لكن ليس أي كلام . اضطر معه الموظفان أن ينصرفا ، ويتركا مكتبا ، كراسي فارغة ، وأرقاما تتعارك لوحدها على شاشة الحاسوب.
كل ذلك والرجل هادئا شامخا في شكله الخارجي ، كتمثال فرعوني ، فيما خياشيمه تنفتح وتنغلق كحصان( الترسي) ، تخرج منهما زفرات متقطعة وحارقة كالجحيم ، لكن مع ذلك ، ظل محتفظا على هدوءه. التفت الحضور الصامت ، ينتظر رد فعل رجل ضخم البنية . انتظرنا منه أن يقلب مكتبا، يسب أحدا ، يصب غضبه على الموظف ، يتوعده كما يحدث عادة في مثل هذه المواقف الحرجة ، أو ينخرط في موجة سباب متبادل. لكنه لم يفعل شيئا من كل ذلك ، وقف صامتا ، كأن رضيعا نائما فوق جفنيه. يومها فقط ، تأكدت من أن المديون مهزوم دائما. كنت بدوري ساكنا صامتا مثله. لأني أعرف كما حدث لي في كثير من الوقائع ، أن النتيجة ستكون كما دائما ، مخزية وغير مشرفة. لكن أشياء بداخلي ، لم ترحم ضعفي . بدأت أسمع أسئلة ، لا أعرف لها مصدرا ، لكني كنت ألتقط رنينها، همسها ، جبروتها و إصرارها. كان صوت يقول لي :
- " هل راق لك المشهد يا إدريس ؟. هل غيرت فيك ديون لم تستأنس لها شيئا ؟. لماذا أصبحت خاضعا طائعا على غير عادتك ؟. أين ثوريتك ؟ وحشيتك؟ ، بدويتك؟ ، أصالتك؟. لماذا أنت مستسلم كالنسوان؟.هل أصبحت منهم ، من أولائك الذين إلى وقت قريب ، كنت تستهزئ منهم ؟. هل أضعفتك شعيرات بياض استنبتت أخيرا فوق صدغيك ؟. لازلت قويا ، تماسك ، تكلم ، بح ، قل شيئا ، احتج مثلهم... ، ما كل هذا الخذلان بعد أربعة عقود من الصياح والاحتجاج... ؟؟ ".
تمنيت لو أن هذا الزمان استبدلني بآخر، نقلتني الجغرافية إلى بقعة نائية لأنجو بكبريائي ، أو التهمني وحش خرافي ، وانتهى أمري . غادر الموظفان المكان ، عبر بوابة زجاجية ، تحت وابل من السباب والصفير. حضر موظف آخر برتبة أكثر أهمية ، ثم مدير الوكالة نفسه. هدأت الأعصاب ، واستسلم الحضور للصمت. قصدا الرجل ذو النظارات السوداء ، انفردا به في مكتب جانبي ، تركته موظفة تقديرا لهما، قصد تهدئة الأمور ، خصوصا وأن مظهر الرجل وقور ومحترم . خفتت الأصوات تماما ، وظل الحضور باهتا ينتظر. عرف المكان موتا بطيئا للحظات ، قبل أن تنبعث فيه الروح من جديد. كانت أصابع مدير الوكالة تروح وتجيء متلاعبة بالأزرار ، فيما جداول تطلع وتنزل لوحدها ، وتتحرك في كل اتجاه. تبسم المدير أخيرا، فبادله الرجل ذو النظارات السوداء بابتسامة منكوبة على شفتيه ، ردا على ابتسامته الوظيفية ، ترافقا معا قليلا ، قبل أن يعود المدير إلى برودة مستوردة ، فيما هم الرجل بالخروج ، لتتلقفه حرارة بداية شهر يونيو ، وأشياء أخرى . وقف لفترة كي يتفحص أوراقا اختلطت عليه. حين مر بنا وهو خارجا ، وقف كأنه يريد أن يقول شيئا ، أحسست بكبريائه قد انهار و بغموضه قد تلاشي . بدأت معالم صورة جديدة ترتسم في مخيلتي ، لرجل حسبته فولاذيا لا ينكسر، لكنها لعنة الديون وجبروتها. كاد الرجل يغرق في الرخام الاصطناعي المغشوش تدريجيا ، وهو واقفا أمامي بلا حراك ، حتى لم يبق منه إلا الرأس ، وكتفان لا يقويان على حمل الهزيمة.
في الجهة الأخرى كان شاب وسيم ، يغوط كلاما فاحشا بجنون على الملأ ، أمام كاميرات آدمية ترصده ، فيبادلها وقاحة في تحد ، بنظرات حاقدة ، ملء عينين واسعتين ، كمدخل مرحاض عمومي. قد يكون استفزه موظف أو أحد الحضور ؟ لست أدري. لما استدار المدير نحونا ، انطفأ لوحده كمذياع ، انقطع عنه التيار الكهربائي فجأة. كان علي أن أقول شيئا ، أرضي هذا اللعين المدفون بداخلي ، يدفعني دفعا للاحتجاج. تلعثمت قليلا ، قبل أن أطلق العنان لحلق ألف السكينة والهدوء. قلت مع نفسي :
- " هي فرصة للتكلم في وجه الكبار، ليعرف صغار الموظفين حجمهم الحقيقي أمامنا ، و أمام رؤسائهم ".
استوقفت مدير الوكالة ، وهو يهم بالمضي أمامنا :
- " هل حرام أن يسأل الإنسان في هذا البلد ؟ ألا يحق له كمواطن ، حتى السؤال عن كم شهر وصبر يلزمه ، قبل أن ترفعوا سيوفكم عن رقبته ، ورقابنا ؟. أن تنتهي ولاية هذه الرسائل المودعة في صناديق بريدنا كل شهر ؟ ".
كنت وأنا أصرخ في وجهه ، دون أن أدري ، متيقن من أنه لا يعرف ما أقصد ، فمثله لا يعرف إلا الأرقام ، والابتسامات الماكرة في وجه الزبائن الأثرياء. بدأ صراخي يعلو ، فيما ابتسامته تتسع ، حتى أصبح قريبا من أن يحضنني . أعجبت في عمقي بهدوئه ، باتساع صدره ، لكن ذلك لم يثنين عن الصراخ ، وكأني أصرخ في وجه المال والرأسمال ، ومن يدير المال ، وسلطة المال . كلما علا صراخي ، انسحب الناس ، المزيد ممن حسبتهم سندا لي وللرجل ، أو من كانوا متحمسين لتوقيع عريضة احتجاج ، حتى كادت الوكالة تخلو من زبائنها ، إلا قلة منهم. حينها اقترب مني مدير الوكالة ، ربت على كتفي بلباقة ، أدخلني إلى مكتب تفوح منه رائحة معادية للقلق ، ونسيم بارد يغري بالنعاس. قال لي وأنا أنتظر حضور الشرطة ، أو مسئولا كبيرا ، يسمعني كلاما ، لا تنفع معه اعتذارات :
- " اسمع يا أستاذ.. صدقني (والله العظيم) إني متفق معك ، فيما ذهبت إليه ، مع كل ما قلته، أنا ابن هذا الشعب ، ومع الشعب ، كنت طالبا متمردا ، وكان طموحي أن أكون كاتبا أو صحفيا ، لأدافع عن المقهورين . لكن لم أدر كيف قادتني الصدفة إلى هنا ، كل ما تراه هنا لا يغريني...".
كنت مترددا بين أن أستسلم لقوله ، أو أستمر في عنادي ، أصدقه أو أعطف عليه. لكني لمست صدقا في كلامه ، وحرارة في إنسانيته ، لم أعهدها في مسئول من قبل. تخلص هو الأخر من ثقل ربطة عنقه ، وأطلق العنان لصريح العبارة :
- " أنا ابن البادية (عروبي بحالك...).(يضحك) وفخور بها ، ولا أحتاج منك أن تسألني أكثر ، لم أعرف المدينة إلا بعد حصولي على الباكالوريا . جئت إليها لمتابعة دراستي الجامعية ، ثم هاجرت إلى فرنسا لمتابعة تعليمي العالي ، والبحث عن سماء تغطيني ، لكن لم يطب لي المقام إلا في بلدي. تزوجت هناك من صديقة فرنسية ، حصلت على بطاقة الإقامة ، ورزقت منها ببنت. سمتها (كلوديا) ، ورمت بالاسم الذي اخترته لها للزبالة. كان علي أن أختار بين قبول ( كلوديا) والبقاء هناك ، أو أحزم حقائبي ، وأركب أول طائرة للمغرب. جئت ، وها أنا أمامك. هل رأيت هؤلاء العاملين هنا؟. أكثرهم دخل بواسطة ، وأكثرهم لا سلطة لي عليهم ، لأن واسطتهم لها نفوذ كبييييير....".
كنت أريد أن أقول أشياء كثيرة ، أعطيه درسا في الوطنية والأخلاق . لكنه سرق مني الكلمة مرة أخرى ، ليضيف بحسرة وألم واضحين :
- " انظر من حولك ، كلهم انصرفوا ، ومن بقي منهم سكت ، هكذا هم يفعلون ...".
خرجت من مكتبه ، متأبطا نصف نجاح ، ونصف هزيمة. كان تفكيري منصبا كله على الرجل.
لم ينتبه أحد لسقوطه ، بمدفع كاتم للصوت . كانت ثلاثة أحرف كافية لفعل ما لا تقدر عليه عشيرة (دال، ياء ونون). قد لا يعرف من حضر الوقيعة حجم الرجل في الحارة ، وهو يمشي في الشارع ، قادم من عمله أو رائح إليه. لم يستمعوا لأحدهم وهو يناديه ب (الشريف) أو ( الحاج) أو (مولاي). لم يلاحظوا انحناءة الجابي الخفية له ، وهو صاعدا للأوتوبيس ، أو نازلا منه. كانت وظيفته الغامضة وراء أسوار القلعة ، تذكرة لصعود الحافلة مجانا، ونيشان تفرض التحية على أتباع المخزن. كثيرا ما تعجب رواد الحديث الرخيص من كونه لم يشتر سيارة بعد ، فتتعدد الأجوبة والاحتمالات والأسئلة. أما فهو فيكتفي بجواب واحد : " لكل شيء أجله... ".
حين ودعت المكان ، كانت الأسئلة تتجاذبني ، وروحي مقبلة على حافة الإفلاس. تمنيت لو أن أحدا قال لي : " كم أكرهك...". رفعت رأسي للسماء ، فوجدت أن الله بعيدا، تحجبه عني سبع سماوات وخطايا ، شهوات وآلاف الأمنيات. تذكرت كم مرة قلت لها أحبك ، وأحيانا كثيرة ، لا أحبك ، أكرهك.... أكرهك. كانت أعصابي مكهربة ، أصبحت كطفل خانته خطواته الأولى . تركت فضاء موجعا ، وصورا لشقق حالمة على الكورنيش ، معلقة على الجدران ، وكراسي وثيرة ، خاوية تنتظر خيبات وضحايا. أما هو فقد سبقني ، ليرصد من بعيد مكانا يرسو فيه طيفي . حين مررت جنب إحدى المقاهي ، نادي علي بصوت مبحوح : " أستاذ...". لم ألتفت ، ما أكثرهم في الشارع ، من المحامي إلى القاضي ، إلى السمسار المحترف ، كلهم أساتذة ، في زمن اغتيال الحرف. بعد محاولات منه ، التجأ إلى مناداتي بالاسم ، كان يعرفني ك (إدريس) ، وكنت أعرفه ك(حاج) ، كما ينادونه ، وإن لم يحج. التفت ، كان هو، جالسا ، ونظاراته لأول مرة تخاصم مقلتيه ، ملقاة على الطاولة ، تلتهم الشمس الصيفية ما تبقى فيهما من سواد. كنت أول مرة أراه فيها بلا نظارات. أشار علي بالجلوس : " تفضل...". ترددت ، لكن جلست. لم يطل الصمت بيننا كثيرا ، رشفت أولى الرشفات من الفنجان ، وقلت له :
- " مثل هذه الأشياء تقع أحيانا ...".
كانت أول مرة أجالسه فيها ، وكان علي تذويب ركام من الجليد المزمن بيننا. صمت قليلا ، كان عليه هو الآخر أن يبدي رجولة ، وإن متأخرة ، في غير موضعها ، حفاظا على ماء الوجه.
- " بإمكاني أن أفقده منصبه من الغد.... لكن الصغار مع الأسف ، من يؤدي الثمن دائما….".
كنت أريد أن أقول له أن الرجل عازب ، ولا أولاد له. وأن وراءه (كتف) أكبر، هواتف وجميلات ، أسرة ومال وجاه. وإن لم يكن كذلك ، ما جلس وراء المكتب أصلا . أصبحت قصته معروفة عند الزبائن ، بعد الذي حصل. من طالب فاشل في جامعات أوربا ، إلى تاجر أقمشة ، أفلس في اليوم الأول ، لكن الأحضان موجودة ودافئة ، كما دائما في العائلات الميسورة ، دفعته ليكون هناك. صمتنا معا ، نظرت إلى الفنجان ، أقرأ فيه طالعي ، نظر هو إلى أشياء أخرى ، لا يراها إلا هو. كنت أحس أن وراء صمته بوح ، وأشياء أخرى. ولوحده استرسل هذه المرة :
- " لم يخطر ببالي أن أعمل هناك. حتى أنا كنت طالبا ، متمردا ، و...".
يصمت ، يرشف بلا تذوق ، ثم يتابع :
- "...هم من صنع مني شريفا وبطلا... أنا (درويش) بحالي بحالهم...أسكن حيا شعبيا ، أهلكتني القروض مثل جميع الناس ، وحين رأوني أدخل إلى تلك القلعة الحصينة ، رفعوني للسماء ، وها أنا اليوم أكتوي بنار أشد حرقة ، بعيدا عن ظلالها ".
كان دخوله لتلك القلعة ، كافيا ليطرد عنه الشكوك ، ويدفع عنه كل ضعف أو خصاصة ، يعطيه كل القدرات الممكنة ، والغير الممكنة ، يصنع له أمجادا ، ويقول عنه الكثيرون :
- " أليس موظفا هناك ؟ هذا يكفي ...".
إلى أن جاءت لحظة عاصفة ، وغير متوقعة أطاحت بكل شموخه ، وألقت بهامته على طولها أرضا. وأمام من ؟. أوراق مبعثرة وأرقام ، موظف بسيط ، وحاسوب متهالك. ألقيت عليه نظرة أخيرة . كان وهو يودعني ، منكسرا وحزينا. التقت عينانا مجددا ، لكن لم يكن بوسعنا فعل شيء ، أكثر من تبادل الحسرة... والألم.