شَـــــــــــــنّون
عبد الشافي صيام ( العسقلاني )
كثيرا ما تكون الصدف خيرٌ من المواعيد ، لذلك يقول المثل " رب صدفة خير من ألف موعد " . هذه الصدفة جمعتني بعدد من ـ معارف الصداقات ـ على شاطئ الأطلسي في المغرب ، إذ يمثل المغرب وموريتانيا وجه أمتنا العربية المطلة على " بحر الظلمات " كما سماه آباؤنا الأوائل .
ولا أدري إن كانوا قد ذهبوا في تسميتهم هذه لأبعد من كونه بحرا غامضا مخيفا أوسع من تصورهم في ذلك الوقت ، وهم حديثي عهد ودراية بـ " صحارى الماء " . إذ أن جميع مصائب الأمة العربية ومآسيها قد جاءت من وراء أمواج هذا البحر..
جاءت موجــات الاسـتعمار والحروب الصليبية ونكبة فلسطين . وهاهم قادة العالم " الديمقراطي الحر " يقودون حربا صليبية جديدة تحت مسميات السلم العالمي ومحاربة الإرهاب .
على ساحل الأطلسي يمتد الحديث ليصل كروافد نهر مقدس إلى كل شيء .. السياسة بتشعباتها .. الذكريات بماضيها المشبع برائحة الصبا .. الغــــلاء الزاحف إلى أرزاق الناس وحشا كاسرا يلتهم الرغيف قبل "الغموس" ، وإلى واقع الأمة وحالها المتردي بسبب حكامها الذين يُصنفون كما تقول العجائز .. حكام آخر زمن .
الفلسطيني أينما ذهب ، وأينما حل لا يخرج عن اهتمامه الأول .. فلسطين وواقع الشعب الفلسطيني في ظل ما يجري من أحداث وما تتعرض له القضية الفلسطينية بعد غياب الرئيس الشهيد أبو عمار وتسميمه بأيدي الصهاينة ، والفراغ والفوضى التي يعيشها الفلسطينيون ، وحالة الإنهاك السياسي التي تعيشها الساحة الفلسطينية .
كانت الشمس تميل لغروبها اليومي بعد عناء يوم طويل أضاءت فيه على مشرق الأرض سادلة وشاحها الوردي على جبين الماء .
على حافة هذه اللوحة سرقنا أنفسنا من موج البحر الذي حاول أن يفتح معنا حواراً ، ويتعرف إلينا بعد رحلة في بطن الماء استغرقت آلاف الكيلو مترات وهي آتية من غرب الساحل من شواطئ البرازيل والأرجنتين .
تركنا الماء والبحر ونسائم الأمازون لنواصل الحديث عن أمازوننا السياسي .. عن فلسطين بحرنا وسمائنا وهوائنا .. عن فلسطين المسافرة مع الفلسطيني أينما حل .
الجميل أن تجد نفسك محاطاً بإخوة هم في درجة اهتمامك ووعيك والتزامك وحرقتك وخوفك وقلقكَ ، ويقفون على ذات المسافة من الإحساس والمسئولية والإدراك بأن القضية هي قضية الجميع كما كان يفهمها ياسر عرفات ، وتشعر بدفء محبة واحترام خاص يدثرونك به لأنك أنت ، ولأنك فلسطيني .. يستمعون إليك كما لو كانوا يستمعون للحديث أول مرة .
الذين يشاركوننا الجلسة متنوعوا الثقافة والتكوين بينهم المحامي والمهندس والإداري والطبيب والمحاسب والرجل الذي امتد به العمر سنوات أكسبته خبرة وزودته بتجربة ، وغالبيتهم من جيل لا يتعدى العقد الخامس بمعنى أنهم من الجيل الذي ولد مع "فتــــــح" لذلك كان حديثهم كله عن أبي عمــــار ( رحمه الله ) ، وكأن عمر النضال الفلسطيني توقف باستشهاد ياسر عرفات ونحن بانتظار أن يعوض الله الفلسطينيين "بياســــر" آخر .
لم يقع أي من المتحدثين في أخطاء الحوار والنقاش التي اعتدنا عليها ضمن عصبيات الانتماء التنظيمي ، وفردية الرأي ، والادعاء بالإلمام بالشاردة قبل الواردة ، وجهلنا بثقافة الحوار التي تحيل المتحاورين إلى أضداد ، وتلقي بظلال الغثاثة على مجمل النقاش والحوار .
أحد الحاضرين أبدى تخوفا على مستقبل القضية الفلسطينية ، والثورة الفلسطينية بتجربتها وما قدمته للتاريخ الإنساني من ثراء نضالي جعلها تأتي في طليعة ثورات الشعوب من أجل الحرية والاستقلال ، تقف اليوم أمام محنة عاصفة أظهرت عجز قيادتها عن تجاوزها ، وبدأت الأزمة تضرب عصب الصمود الفلسطيني ، وتضع مكتسبات الثورة وإنجازاتها التي حققها الشعب الفلسطيني بدماء شــهدائه ومعتقليه القابعين في سجون العدو الصهيوني المحتل .
لقد دخل الفلسطينيون عملية السلام بأداء قاده الرئيس أبو عمار ونال احترام وتأييد العالم ، وها أنتم تدخلون عملية الصراع الداخلي ، ويقف قادة العمل الفلسطيني عاجزين عن تجاوز المحنة والخروج من الأزمة ، وبتنا أمام مشهد محزن للمسئولين الفلسطينيين وكأننا نتابع برنامج "الاتجاه المعاكس" ، وأصبحت شرعية العمل الفلسطيني ، وشرعية القيادة يتنازعها أكثر من طرف ، وتراجعت القضية الفلسطينية حتى على مستوى الخبر اليومي ..
أين ذلك الحضور الذي كان يمثله أبو عمار ؟
وأين ذلك الثقل والوزن السياسي لقائد "الفتح" الذي كان اسمه ـ رحمه الله ـ مفتاح البورصة السياسية في العالم ؟ وهو الذي لا يملك الصواريخ ولا القنابل النووية ولا حاملات الطائرات ولا أرصدة المليارات . وكل ما كان يملكه هو صدق الثائر وعزيمة المقاتل ، وانتماؤه العربي والأممي الذي جعلنا جميعا ننتمي إليه وإلى فلسطين .
لن نكتمك القول بأننا نشعر بخجل ومرارة ونحن نتابع أداء قياداتكم التي كنا نأمل أن تخلف أبا عمــــار وتواصل مشواره ومشوار الشهداء . وستجدنا دائما في موقع المدافعين عن الثورة وعن القضية وعن القدس .
ليس سهلا أن تحجب الشمس بالغربال ، أو تنزح البحر "بالكشتبان" كما يقول المثل والمشهد أكبر من مسرح الحدث ، وليس سهلا أن تعيد الماء من مصب النهر إلى منبعه لتقول لمحدثك الذي يشاركك الحرقة والخوف والألم بأن الصورة ليست كما يراها حتى لو كررت أمامه ( مع احترامي لرأيك ألف مرة ) فالصورة في واقع الحال هي كما يراها .
لا أدري لماذا خطر ببالي شخص من قريتي كان يدعى "شــنون " ، ونحن نتحدث عن واقع سياسي .
وصاحبنا "شــنون" شخص منحوس ، وكان موصوفا بالنحاسة ، وكأن النحس على هذه الأرض قد تجمع في "شــنون" ، فهو إذا أكل لا يشبع ، وإذا حدثته لا يسمع ، وإذا ذهب لا يرجع ، وكان كل من يراه يتشاءم من رؤيته ، حتى مجرد ذكر اسمه يجلب النحس والتشاؤم . ولا أدري إن كان ذكره في هذا المقال سيجلب النحس رغم قراءتي للمعوذات .
وجدت في "شــنون" تجسيدا للكثيرين من قادة العمل الفلسطيني ـ مع احترامي لمعنى القيادة ـ . ووجدت واقعنا السياسي محكوم بحالة "شـــــنونية" من الباب إلى المحراب .
الواقع الفلسطيني منقسم على نفسه ، والواقع التنظيمي للعديد من الفصائل الفلسطينية بحاجة إلى وقفة تشعر الشارع الفلسطيني الذي يدفع الثمن أنه لا يحرث في بحر الأوهام . ولا أدري متى سيريحنا "شــنونيوا" المرحلة من أحذية ألسنتهم ويتوقفون عن إصدار بياناتهم التي تنسب لناعق من هذا الفصيل أو ذاك .
معاناة الناس وتضحياتهم وآلامهم وصلت مرحلة "القرف" الداعية إلى التغيير الحقيقي ، وليس إلى عملية "تلبيس الطرابيش" وتزيين "الشــنونيين" في عيون الناس عبر مجموعات النفاق والمتسلقين والنفعيين ، والكذب على أرواح الشهداء بتحقيق مكاسب ونجاحات على امتداد "شروم الشيخ" وانتهاء بـمنفحة العجل "أنابوليس" . فالناس .. وما أعنيه شعبنا العظيم الذي كان دوما وسيبقى أكبر من قيادته بدأت تتشكل لديه قناعاته التي ستأتي بالتغيير بعيدا عن وراثة السلطة التي يتشبث بها المنتفعون .
ولعل موقف الأخ سليم الزعنون ( أبو الأديب ) رئيس المجلس الوطني الفلسطيني الرافض لعقد المجلس الوطني الفلسطيني بالطريقة التي تمت بها عملية اتخاذ العديد من القرارات الهامة الباطلة قانونا ، هو الموقف السليم في لحظة تاريخية ، إذ برر الرجل موقفه ليس لكونه على خلاف مع فلان أو علان ، بل لعدم توفر الآليات القانونية لعقد المجلس ، ولا يجوز عقد المجلس بمن يحضر وكأن الأمر دعوة لجلسة على مقهى .
الدعوة لعقد مجلس وطني تحتاج إلى انتخاب مجلس وطني جديد يتمثل فيه الفلسطينيون بقياداتهم في الخارج والداخل بعيدا عن "لعبة الأكروبات" السياسية التي تدعو لها جهات في القيادة الفلسطينية بدعوى أن من هم في الخارج " لم يُغبِّروا أحذيتهم " بالدخول إلى الوطن ، فالكل يتوق ويناضل للدخول إلى الوطن وهو هدف وحلم كل فلسطيني .. لكن ضمن حل يحقق للفلسطينيين حقوقهم الثابتة وفي طليعتها حق العودة لكل لاجئ فلسطيني . ومن حق الناس أن يتساءلون .. ما الذي تحقق منذ مدريد وأوسلو وحتى أنا بوليس .
ما نأمله أن يقف الأخ رئيس المجلس الوطني الفلسطيني إلى جانب النظام والقانون وأن يكون أقوى من كل الضغوط التي تمارسها عليه أطراف لا ترى في وجودها واستمرارها إلا خارج القانون .
"شــــنون" سيبقى شعارا للمرحلة .. إلا إذا وقع ما هو خارج المألوف بأن تستعيد حركة فتـــــح عافيتها بعيدا عن مخططات الدجل التنظيمي التي يسعى البعض لتمريرها باسم الشرعية التنظيمية .
تقول الحكمة : إذا قل الحياء زاد البلاء ..
وما نخشاه أن يعم البــــــــــلاء ..