طريق الحرية، طريق الحرير..!
دهام حسن
نقصد هنا بالحرية، الحريات المدنية، الحريات داخل المجتمع، الحريات الاجتماعية بوجود سلطة؛ والحرية كمسار بشري، موغل في القدم، حيث تعود المطالبة بالحريات إلى العصور القديمة في اليونان وفي روما القديمة؛ فقد جاءت الدعوة للحرية للحماية من الطغيان، وعسف السلطة السياسية، وحكم القبائل والطوائف، وقد تبلورت فكرة الحرية على شكل مذهب، ثم تطورت واقترنت بتطور المجتمع الرأسمالي، وتمثلت في بعض معانيها، أو تجسدت في بعض جوانبها بالليبرالية في منتصف القرن الثامن عشر.
لقد بدا أن الطبيعة الاجتماعية، وحالة التطور الدائم للمجتمعات اقتضت ضرورة وجود طاغية ضار واحد بدلا من طغاة عديدين للسيطرة على المجتمع بحدود معينة، وتقليم أظافر الطواغيت الصغار داخل المملكة، والبقاء على حاكم واحد مطلق الصلاحيات، للوقوف في وجه من تسول له نفسه العبث بحدود مملكة الطاغية الأوحد من الأعداء الخارجيين؛ مما خلق ما يشبه بوحدة حال بين الحاكم والمحكومين، لأن الأخيرين أيضا كانوا يتوجسون خيفة من الغزوات الخارجية، وكانوا بالتالي بحاجة إلى حماية دولتهم، والتشتت هنا ضار، والتجمع والخضوع لقائد واحد، هو السبيل لاكتساب منعة وقوة للتصدي لأي طامع عات خارجي يريد شرا بمملكتهم.. ومن هنا جاء النزوع إلى الوحدة في العهد القديم، كما سرى ذلك التطلب خلال التطور الرأسمالي، فتحققت الوحدة الألمانية، والوحدة الإيطالية في القرن التاسع عشر إبان الامتدادات أو الاحتلالات الاستعمارية الأوربية، إما لمواجهة أو درء هذي المخاطر من جانب، أو الدخول والمشاركة فيها، أي في الحروب اللصوصية من جانب آخر...
من هنا أيضا تولدت الدعوة إلى الحرية من قبل الوطنيين المستضعفين للحد من سلطة الحاكم المطلق، ولتحقيق بعض الضمانات، تتمثل ببعض الحقوق والحريات، حيث لا يمكن للحاكم مصادرتها أو تجاوزها، لأن هذا يبرر لهؤلاء المستضعفين من الطبقات الدنيا من التمرد والعصيان، كما أثمرت نضالاتها عن سن قوانين تخضع لنقاط المراقبة، لا يمكن للحاكم من تجاهلها أو تجازها؛ ضمن هذا السياق من الشد والتجاذب بين الحاكم والمحكومين، جرى ما يشبه التوافق بين الطرفين، هذا التوافق خضع بالطبع لميزان قوى طرفي المعادلة؛ بحيث يستمر الحكام في حكمهم، فيأتمنهم المواطنون شريطة أن يكونوا معرضين للعزل والإقصاء في حال تماديهم أو تجاوزهم لما حدد لهم من مهام أو صلاحيات فصلتها القوانين. ربما هذا التوافق أو ما يشبه العقد، قد خفف من جذوة الصراع والتطاحن، لكن لم يتيسر له من إخماد جذوة الصراع الطبقي الذي سيستمر ولن يهدأ... ولا ننسى هنا ما كان للأسر الحاكمة من قداسة في قلوب الناس في حقبة تاريخية ما، ودعواها بألوهية الحكم، أي أنهم يستمدون حكمهم من الله، ويتصرفون وفق إرادته تعالى.. كما لا بد من التنويه هنا إلى دور الكنيسة وتواطئها في مرحلة ما مع الارستقراطية الحاكمة في المرحلة الإقطاعية، ليخف دورها ويكاد ينحسر في التشكيلة الرأسمالية في الحقبة التالية..
لنعد إلى ما بدأناه في الكلام عن الحريات المدنية ضمن المجتمع، ونستهلها بحرية الفكر؛ فالتفكير أساسا نشاط ذهني لا يتوقف، ولا يمكن لأحد إيقافه فهو كنبض القلب حسب تعبير أحدهم، وحرية الفكر، أي حرية الكلام والكتابة، حرية الصحافة، حرية التعبير والجدل، لما لها من دور في فضح ممارسات الحكومات المستبدة، وتشخيص مواطن الفساد المستشرية في أوصال الدولة، وتأليب الرأي العام ضد ارتكابات السلطة، يقول أحد العلماء: ( السلطة تنحو نحو الإفساد، والسلطة المطلقة تفسد بصورة مطلقة ) فبالحريات المدنية داخل المجتمع، يمكن رسم معالم الدولة المنشودة مستقبلا في فكر القوى المعارضة وفق برامج ومعالجات واضحة، والتكثيف بتسليط الأضواء على مفاهيم الحرية والديمقراطية.. . إن الاستبداد قبل غيره يدرك محاذير الحريات لاسيما حرية الصحافة، فهذا نابليون بونابرت في مستهل القرن التاسع عشر يأمر بإغلاق 64 صحيفة من أصل 73 صحيفة تصدر في فرنسا، وقال لو أني سمحت بصحافة حرة لما بقيت أكثر من ثلاثة أشهر... أيضا ثمة ترابط منطقي بين حرية التعبير ومحاولة اكتشاف الحقيقة؛ يقول الاقتصادي النمساوي فريدرك هايك : (إن الشمولية تعني نهاية الحقيقة، أو الصدق) والحرية في الأنظمة الشمولية تعني ( الحرية المطلقة للمخطط ليفعل ما يشاء بالمجتمع ) وأيضا بحرية التعبير تنمو قدرات الفرد وتصقل شخصيته، فتلاقح الآراء المتنوعة تفضي بالنهاية إلى ازدهار العقل الجمعي، إلى الإبداع...
من هنا كان الدور البارز لفلسفة الليبراليين عن الحرية، بالدعوة إلى انفتاح أكبر، وتوسيع دائرة الحريات، وفتح أطرها، وجاء التركيز على الفردانية، على حرية الفرد..فهذا جون ستوارت مل يقول في منتصف القرن التاسع عشر: ( لو أن كل البشرية ما عدا شخصا واحدا فقط كانوا برأي واحد، وكان ذلك الشخص برأي مغاير فإن البشرية كلها لن تكون مبررة لها في إسكات ذلك الشخص ) ومازال قول فولتير ــ القرن الثامن عشر ــ بهذا المنحى دائرا على كل لسان اليوم، وفحواه: أخلفك في الرأي لكني مستعد للدفاع عن حريتك في التعبير عن رأيك...فحرية الفرد،هي السياسة التقدمية الحقيقية الوحيدة، حسب تعبير أحد المفكرين الكبار..
وهنا لا بد من التنويه في فلسفة الليبرالية.. فالليبرالية كمفهوم لم يقترن باسم شخص محدد، بل ظلت كمفاهيم متنوعة المشارب، ويهمنا هنا، فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وقبيل الحرب العالمية الثانية، حيث تأجج الصراع بين جناحيها اللذين تمثلا باقتصاديين كبيرين، هما الاقتصادي الإنكليزي الذائع الصيت جون ماينرد كينز، واقتصادي آخر نمساوي كبير هو فريدرك هايك إن أسعفتني الذاكرة..فإذا كان الاثنان متفقين على وضع الفرد وحريته في السياسة وحرية التجارة والاقتصاد، فإن كينز أدرك محاذير الوضع الجديد، الذي تبلور بعد الحرب العالمية الأولى، فقد توسعت رقعة الشيوعية، وكان الناس مأخوذين بالمبادئ والشعارات التي أطلقها الشيوعيون، وما ترجم منها في استهلال نضالاتهم ونشوة انتصاراتهم، فضلا عن انتصارات حققتها حركات التحرر الوطني، وأحزابها الراديكالية، القومية واليسارية، ناهيك عن المآسي والكوارث التي خلفتها الحرب الكونية الأولى، وتفشي الجوع والفقر، وتطلع كل هؤلاء للنموذج السوفييتي كطوق نجاة من الحالة المزرية التي يعيشها سكان مختلف القارات؛ والفزع الذي أحست بخطره البرجوازية الرأسمالية؛ كل هذا حدا بكينز للإعلان عن مفاهيم جديدة أضفاها على ليبراليته، وهي وجوب تدخل الدولة في الاقتصاد، والتكفل ببعض الضمانات، في حالات العجز، والبطالة، والضمان الصحي... إلخ وتم الأخذ بأفكار كينز، وهذا الشيء خلق ما عرف بعد ذلك بدولة الرفاه.. إذا كانت دعوة كينز جاءت في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، فقد جاءت إلى الواجهة من جديد، الدعوة للتنصل من هذه الضمانات، أو الإنجازات، وعدم تدخل الدولة في شؤون الأفراد، أي العودة إلى أفكار الاقتصادي فريدريك هايك، أي رفض تدخل الدولة بالمطلق بشؤون الأفراد، وقد ظهرت هذه الأفكار بقوة في مطلع السبعينيات من القرن الماضي..
إن الذي يدعو للديمقراطية، ويرتضي بها نظاما سياسيا، عليه أن يقبل بإرادة الشعب، لا أن يزوّر تلك الإرادة بسلطته القمعية؛ واليوم نلمس أن الرأي السائد، سواء أكان هذا الرأي من قبل سلطة ما، أو حزب راديكالي، نلمس أن المنشقين عنه باتوا أكثر من المنضوين برايته أو الداعين إليه، وهذا يدخل في إطار حرية الرأي، سواء أكان صاحب هذا الرأي على صواب أم على خطأ... وبالمقابل، لا يمكن خنق رأي الأقلية، وقمع أصحابه والحكم عليه مسبقا بالخطأ، فالأقلية بمقدورها أن تعبر عن حقوقها وخصوصيتها، سواء أكانت هذه الأقلية عرقية أم دينية، وأن تنمي تلك الخصوصية، وتجهر بتلك الحقوق بكل حرية.. ففي النظم الاستبدادية الحاكمة عادة يكون لها اتجاه سياسي سواء تمثل هذا الاتجاه بحزب سياسي أم من دون حزب بالاكتفاء بالأجهزة القمعية، ونلحظ كيف أن القائد الشمولي (يجمع حوله مجموعة من هؤلاء المستعدين طوعا للخضوع لذلك النظام الذي سيفرضونه بالقوة على الناس الآخرين)...
أما الحزب السياسي خارج أطر السلطة، فما عليه إلا أن يبقى منفتحا أمام النقد، يتقبله، ويقف على أخطائه،ويدرك أن الإصغاء للآراء المتنوعة، والرأي المغاير كثيرا ما يكون سببا في إحراز تقدم، فيكتسب ثقة الناس، بعد أن يحسن من سلوكه، كل هذا يكسب الحزب منعة، وتكتب له الاستمرارية والتقدم المضطرد.. وعلى الحزب أو الفرد حتى، الاستئناس للحقائق العلمية بعقل منفتح، ويأبى بالتالي أن يكون نسخة فوتوغرافية عن النظام، أو عن السلطة الغاشمة...
وأخيرا نقول: إن الحرية بأحد جوانبها السياسية هي الديمقراطية في إدارة شؤون الدولة، نقول في هذا المجال، أن الديمقراطية لها معنى واحد في إدارة السلطة، هو التعبير الحر عن إرادة الشعب، عن إرادة الناس كأفراد وجماعات؛ فبالحرية أيضا تزدهر شخصية الفرد، وتصقل موهبته، ويعلو شأن العقل، والأنظمة الشمولية رغم مناداتها بإعلاء شأن العقل، فهي تنتهي بتدميره، وبسبب الحرية أيضا، تزداد التنمية، وتتحقق الوفرة، ويعيش الإنسان في رغد من العيش... أليس من حقنا بعد هذا، أن نقول أن طريق الحرية هي طريق الحرير....