المساهمات : 274 تاريخ التسجيل : 05/02/2008 العمر : 60
موضوع: الوطنية والقومية والمواطنة الخميس فبراير 21, 2008 2:59 pm
الوطنية والقومية والمواطنة
1- الوطنية ... والقومية
محمد عابد الجابري
في مقال سابق نشرناه على هذه الصفحة بعنوان "كلام في مفردات الخطاب" أحصينا نحو خمس وعشرين مفردة "دخلت" في خطابنا العربي منذ أوائل الثمانينات -تاريخ انتشار مفاهيم العولمة- لتحل محل مفردات ّأخرى كانت سائدة في المراحل السابقة من تاريخنا الحديث. من هذه المفردات: الوطنية والمواطنة.
لقد اخترنا الكلام في هذا الزوج ليس فقط لأن "المسألة الوطنية" قد عادت لتطرح في بعض الدول العربية، ربما بدرجة من الوعي أعمق، بل أيضا لأنني أتوهم أن كثيرين ممن يطرحون شعار "الموطنة" الرائج اليوم لا يستحضرون جميع معاني هذا اللفظ بل يفهمون منه شيئا ربما يختلف تماما في عصر العولمة عن معناه الأصلي الذي استعمل فيه زمن الثورة الفرنسية وامتداداتها.
إن لفظ "الوطنية" لا وجود له في القواميس العربية القديمة. أما "وطن" فتقول عنه هذه القواميس : "وطن، مُحرَّكةً ويُسَكَّنُ: مَنْزِلُ الإقامَةِ، ومَرْبَطُ البَقَرِ والغَنَمِ، والجمع: أوطانٌ. وصيغة لفظ "وطنية" مصدر اصطناعي كـ"الإنسانية" من الإنسان. وقد شاع استعماله بكثرة في جميع أرجاء العالم العربي والإمبراطورية العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والغالب أنه ترجمة لمفهومين سادا في فرنسا في ذلك القرن: الأول هو patriotisme من patrie ومعناه الوطن. والثاني ناسيوناليزم" nationalisme من nation التي ترجمت بـ "الأمة".
أما المفهوم الأول فترجمته موفقة لا غبار عليها. والمعانى الذي يحمله اللفظ الفرنسي patriotisme هي : "شعور بالانتماء إلى بلد يقوي الوحدة بين أبنائه على أساس قيم مشتركة". وأيضا "حالة نفسية/روحية تدفع الواحد إلى الشعور بالحب والاعتزاز وإلى الدفاع عن مصالح بلده". ثم يضيف القاموس الذي نقتبس منه: "يجب عدم الخلط بين "الوطنية" patriotisme وبين مظهراها المتطرف بل العدواني المسمى "الشوفينية" chauvinisme (العصبية العرقية)، كما يجب التمييز بين "الوطنية" patriotisme وبين "ناسيوناليزم" nationalisme الذي هو إيديولوجيا سياسية. وهذا اللفظ أخذ من nation، كما قلنا ومعناه: "جماعة بشرية تتعرف على نفسها بارتباطها ببقعة من الأرض على مدى التاريخ ويجمعها الشعور بالانتماء إلى نفس المجموعة"، وقد ترجمت هذه الكلمة بـ "الأمة" وهي ترجمة أقل توفيقا، لأن عنصر الأرض لا يدخل بالضرورة في مفهوم "الأمة" باللغة العربية (قارن الأمة الإسلامية، أمة محمد، ويطلق في القرآن ليس على جماعة من البشر فحسب، بل أيضا على "أنواع" المخلوقات كالطيور... الخ). ولما كان من غير المستساغ في اللغة العربية اشتقاق مصدر صناعي من لفظ "أمة" لوضعه كترجمة للمفهوم المشتق من كلمة nation أعني nationalisme، فقد ترجم هذا المفهوم، في المغرب العربي خاصة بكلمة "وطنية"، بينما ترجم في المشرق بكلمة "قومية" في الغالب، نسبة إلى "القوم". وهذه ترجمة فيها نظر! إنها لا تسمح مثلا باشتقاق لفظ يعبر عن معنى nationalité الذي نعبر عنه في العربية بلفظ "جنسية"، وهو بعيد عن لفظ "قومية" وأفقر منه بما لا يقاس.
وهذا الاختلاف بين المغرب والمشرق يرجع إلى وضعية كل منهما، أكثر مما يعود إلى اعتبارات أخرى. ذلك أن "الآخر" الذي كان يتحدد به "الأنا" في المغرب العربي هو الاستعمار الفرنسي، وهو استعمار استيطاني. والاحتلال الذي قام به كان احتلالا للأرض بالقوة والاستيلاء عليها لفائدة "المعمرين"، فالمستهدف أساسا كان هو "الوطن"، بوصفه الأرض وما يرتبط بها من مشاعر ومخايل وتاريخ، أرض الأجداد والذكريات الخ. أما في المشرق العربي فقد كان "الآخر"، في القرن التاسع عشر، هو جنوح الخلافة العثمانية نحو التتريك، أي فرض سيادة العنصر التركي في تلك الإمبراطورية على "الأقليات" الأخرى ومنها العرب. و"سياسة التتريك"، هذه، كانت تستقي نموذجها من أوروبا، وبالتخصيص من مفهوم "الناسيوناليزم" Nationalisme الذي هو "إيديولوجيا سياسية"، وقد تطورت هذه الإيديولوجيا إلى تكريس مفهوم "التفوق العرقي" الذي شيدت على أساسه ومن أجل تبريره نظريات "علمية" (كذا!) في ألمانيا خاصة.
ومن هنا كان مفهوم "الأمة" و"القومية" في المشرق العربي على تواصل بالنظريات الألمانية خصوصا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وتقاسم الدول الأوربية المنتصرة، وبكيفية خاصة، بريطانيا وفرنسا للعالم العربي، وتجزئة المشرق العربي منه إلى أجزاء ضدا على الجغرافية والتاريخ والأصول الخ. لقد جرى ذلك بصورة تعسفية جدا في "سورة الكبرى" التي قسمت إلى الأردن، وفلسطين، ولبنان، وسورية الحالية التي سلخت منها مقاطعة الأسكندرون لتضم إلى تركيا. أما الخليج فقد أقرت فيه "المشيخات" ككيانات سياسية تحت السيطرة البريطانية.
ومن هنا جاء مفهوم "التجزئة في المشرق العربي ليحل محل "الآخر" السابق ("سياسة التتريك") وليصبح هو "الآخر" الذي يتحدد به مفهوم "الأمة العربية". وعندما نشطت حركات التحرر الوطني في "شمال إفريقيا" واتجهت إلى المشرق لتؤكد انتماءها العربي، ضدا على سياسة "الفرنسة" التي اتبعها الاستعمار فيها، وجدت تجاوبا قويا، تجسَّم في المناصرة الشعبية والإعلامية والتزويد بالسلاح الخ. ومن هنا توسع أفق الحركات الوطنية والقومية في المشرق العربي فأخذت ترى التجزئة التي قام بها الاستعمار هناك قد امتدت في الواقع إلى "شمال إفريقيا" التي أصبحت تدعى بـ"المغرب العربي" منذ تأسيس "الجامعة العربية"، وبالخصوص منذ إنشاء "مكتب المغرب العربي" في القاهرة، بقيادة بطل "حرب الريف" محمد بن عبد الكريم الذي كان مقيما في القاهرة ...
ومع أن العلاقات بين دول المغرب العربي ودول المشرق العربي فد توطدت وتنامت إلا أنه لم يكن هناك في المغرب العربي نفس "الشعور القومي" الذي ساد في أقطار المشرق سواء قبل جمال عبد الناصر أو في عهده أو بعده. كما أنه لم يكن هناك انتشار ولا شيوع للفظ "القومية" كبديل عن الوطنية. ومع أن حزبا وطنيا في المغرب الأقصى كان قد أطلق على نفسه في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، عبارة "الحركة القومية"، فإنه لم يكن يعني بهذا الاسم شيئا آخر غير "الحركة الوطنية"، وكان هذا الاسم الأخير قد سبق إليه "الحزب الوطني"، عند انقسام "كتلة العمل الوطني" التي خرج الحزبان من رحمها.
أما سبب غياب مفهوم "القومية" في المغرب العربي فيرجع إلى عدة عوامل لعل أهمها هو أن هذا المفهوم قد تأسس في الوجدان العربي، في الشام والعراق خاصة، ضدا على سياسة التتريك العثمانية ثم على واقع "التجزئة" الاستعمارية.
أما المغرب العربي فلم تمسه "سياسة التتريك"، أما التجزئة فقد كانت فيه، ولا تزال، إرثا تاريخيا، لم يخلقها الاستعمار الفرنسي وإن كان قد عمقها. كان المغرب الأقصى قبل الاستعمار دولة مستقلة عن المشرق منذ هارون الرشيد، وكان هو والدولة الأموية في الأندلس من أولى "الدول المستقلة" عن الدولة العباسية. أضف إلى ذلك أنه، أعني المغرب الأقصى، قد تحول في فترات طويلة من تاريخه إلى إمبراطورية امتدت حدودها: حينا إلى مصر، وحينا إلى جنوب السنغال ومالي، وحينا آخر إلى جبال البرانس بإسبانيا (الأندلس). أضف إلى ذلك أنه لم يخضع قط للإمبراطورية العثمانية. وإلى ما قبل فرض معاهدة الحماية عليه سنة 1912 كان يطلق عليه في الخطاب الديبلوامسي الأوربي اسم "الإمبراطورية الشريفية" (نسبة إلى الأشراف (من نسل علي بن أبي طالب) الذين صاروا على رأس الدولة المغربية منذ القرن السابع عشر). أما تونس والجزائر فقد كانتا قبل الاستعمار الفرنسي ولايتين من ولايات الإمبراطورية العثمانية، تتمتعان بنوع من "الاستقلال الذاتي".
هذا الوضع التاريخي قد وجه الحركات الوطنية في هذه الأقطار إلى نشدان وحدة تجمع بينها من أجل توحيد الجهود لمقاومة الاستعمار الفرنسي أولا، لتتطور ثانيا إلى وحدة تكون بديلا عن الانفصال الذي كرسه. أما الدخول في مشروع "قومي" (إقامة الوحدة العربية)، فقد كان يقع ولازال، بعيدا عن الأفق المنظور. (للمقال صلة). * المرجع:موقع المفكر المغربي محد عابد الجابري