العمـــر الزمني والعمـــر السياسي
أبو عمـــار وزعماء آخرون
عبد الشافي صيام ( العسقلاني )
المتعارف عليه بالنسبة للمخلوقات ولما هو موجود على هذه الأرض وفي الأكوان بأن أعمارها ووجودها تحتسب على أساس الحساب الزمني ، فيقال بأن "فلاناً" عَمَّــرَ ( كذا عاما ) ، و"فلانٌ" عمَّــرَ ( كذا عاما ) ولا تعني هذه الأعوام ـ سواء كانت يوما أو مليوناً ـ المجتمعات الإنسانية إن كانت خارج دائرة العطاء العام وتحقيق الخير لمجتمعاتها وشعوبها ، وتبقى ضمن جداول البيانات المتخصصة ( متوسط الأعمار ) للدلالة على تقدم المجتمعات اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وعلى رقيها ورعايتها الصحية . ولا تعطي الزيادة أو النقصان في هذه الجداول أي قيمة معنوية أو اجتماعية للأفراد .
ما دعاني للدخول إلى هذا الموضوع ، حوارٌ دار قبل فترة أثاره صديق متخصص في علم الاجتماع والأثنيات وتطرق الحديث عن المعمرين والآثار السلبية للتقدم الصناعي على عمر الإنسان نتيجة ضغوط الحياة العصرية المعقدة والتي خفضت سني الأعمار الزمنية إلى نسب متدنية بشكل ملحوظ .
وقد أشرت في مداخلتي لماذا لا نتطرق إلى جانب آخر يتصل بالأشخاص المؤثرين في المجتمعات ، وفي طليعتهم الأنبياء والرسل والشعراء والأدباء والكتاب والزعماء والقادة البارزون ، وبمعنى آخر الأشخاص الذين يتركون بصمات وأثراً في المجتمع الإنساني بشكل عام . فأعمارهم لا تحتسب ضمن الحساب الزمني حتى لو امتد الأجل بأحدهم عدة أعوام أو ارتفع إلى ألف عام فعمره الحقيقي يتحدد بما قدمه وما أعطاه وما تركه من إرث إنساني تتوارثه الأجيال .
ولكون هذا الموضوع يندرج تحت دراسات وأبحاث تحتاج إلى مراكز بحث متخصصة وإلى علماء وباحثين متخصصين ، ولتجنيب هذا الطرح ما قد يتناوله البعض بالنقد . فإنني أفرق هنا بين ما يمكن أن نسميه العمر الأكرم على هذه الأرض وهو لرسولنا الأعظم صلوات الله وسلامه عليه والذي خلقت هذه الحياة من أجله ـ حتى قبل خلقه ـ وتستمر برسالته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . وبذلك نترك لأصحاب العلم والمعرفة معالجة ذلك .
وما يعنيني فيما أطرحه الآن هو "العمر السياسي" للقادة والزعماء الذين حجزوا لهم مواقع في التاريخ الإنساني .
وليس من باب التعصب أن أبدأ بقائد وزعيم وثائر ربما يكون أحد أهم الأشخاص الذين أعنيهم بتعبير " العمر السياسي " ألا وهو الأخ الشهيد الرمز ياسر عرفات الباقي بروحه حاضرا معنا وسيظل كذلك أحد علامات التاريخ الفلسطيني الخالدة ، والذي يدين له شعبنا بدوره الذي يصعب أن يتكرر لأجيال قادمة .
فياسر عرفات انتقل إلى جوار ربه شهيدا عن "عمر زمني" امتد لثمان وسبعين عاما تقريبا ، لكن "عمره السياسي" هو عمر القضية الفلسطينية وسيستمر لسنوات طويلة لأننا سنظل نتعاطى داخل الحدث الفلسطيني بإرث ياسر عرفات وتجربته النضالية وحضوره "الكارزمي" العالي كقائد فذ قاد النضال الفلسطيني في حقبة هي من أصعب وأدق مراحل التاريخ المعاصر .
ففي أوج تعاظم القوى الإمبريالية الاستعمارية العالمية وإعادة تنظيم قواها لإحكام سيطرتها على العالم بعد نجاح حركات التحرر العالمية وسقوط العديد من معاقل الاستعمار الإحتلالي المباشر في بلدان كثيرة كانت حتى بداية الخمسينيات من القرن المنصرم تخضع لحكم وسيطرة القوى الاستعمارية المختلفة ، وبروز ما يمكن تسميتها الدول المستقلة التي انتزعت استقلالها بالنضال والكفاح ، وتأتي الجزائر في طليعة هذه الدول إلى جانب دول أخرى منها الهند وفيتنام .
ويمكن تصنيف الاستقلال إلى استقلال بالدم ( كحالة الجزائر ) واستقلال بالتراضي وهو خطير لأنه أوجد أنظمة مستقلة من الناحية القانونية لكنها بقيت بشكل أو بآخر على ارتباط بالدول المستعمرة عبر حكام يدينون بالولاء لمستعمريهم ، وهؤلاء كانوا يمثلون نسبة عالية رغم تعدد الرايات الوطنية والأسماء الرسمية للدول التي بدأت تزداد على لوحة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ، مما دفع العديد من القوى الوطنية للثورة على أنظمتها وتغيير حكامها ، وهو ما شهده النصف الثاني من القرن الماضي ، ومن أبرز أمثلته ثورة 23 يوليو التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي حارب في فلسطين في بداية النكبة ، وعاش واقع التآمر الدولي والعجز العربي على فلسطين وقيام الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين .
وسط هذا التحول العالمي ، وفي حقل السياسة الدولية المليء بالألغام والمواقف المتناقضة والكاذبة تجاه حقوق الشعب الفلسطيني الذي أصبح مشردا خارج وطنه ، وكادت أن تنجح محاولات الصهيونية العالمية والدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في طمس القضية الفلسطينية ، وإلحاقها ببند المساعدات الإنسانية وتحويل الفلسطينيين من شعب له حقوقه الوطنية والسياسية على أرضه ، إلى مجموعات من اللاجئين الباحثين عن مأوى في هذا البلد أو ذاك .
نقول وسط هذا التحول .. بدأ العمر السياسي لقائد شاب عُرف باسم ياسر عرفات ( أبو عمَّــار ) الذي أطلق مع عدد من إخوانه رصاصة الثورة الأولى في يناير عام 1965 وأعلن عن قيام حركة التحرير الوطني الفلسطيني ( فتح ) لتكون الفصيل الأبرز والأهم ولتقود النضال الفلسطيني ولينجح هذا القائد في إحياء القضية الفلسطينية وإعادتها إلى واجهة الحدث الدولي اليومي ، وليصبح واحدا من أبرز القادة المدافعين عن حق شعبه وأحد أهم رموز الحرية والاستقلال في العالم ، ويغير أسماء مخيمات اللاجئين التي كانت تحمل يافطات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين إلى معسكرات الثورة والعودة والصمود . وبحكمته وإرادته الوطنية الصلبة صنع المعجزة الفلسطينية ، وجذَّر مفاهيم النضال والتضحية في نفوس الأطفال مثل الكبار .
ياسر عرفات عمره السياسي كما قلنا ممتد فينا وسيمتد حتى برفع شبل وزهرة من أبناء فلسطين علم فلسطين على أسوار القدس ومآذن القدس وكنائس القدس ، وكأن رجع صوته مازال يتردد على مسامع الفلسطينيين ، وستبقى أجيال ياسر عرفات ترفع الراية وتحتضن الأمانة وتحمل البندقية الثائرة خارج رخويات المواقف وسراب الأوهام .
هناك العديد من الشهداء الخالدين والأسرى الأبطال والقادة والزعماء والشعراء والمفكرين الذين يندرجون تحت هذا التمييز في تاريخنا المعاصر ولا يتسع المجال هنا لحصرهم وذكرهم ، كما لا يعني عدم ذكر الكثيرين ضمن ما سيرد من أسماء بأنه انتقاص من دور الآخرين وحقهم ومكانتهم . وما نطرحه من أسماء إنما هو للدلالة والتذكير بأن سراج ذكراهم سيظل مضيئا للأجيال طريق الحرية .
فالزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، والمهاتما غاندي ، وجواهر لال نهرو وهوشي منه ، والرئيس العراقي الشهيد صدام حسين ، والرئيس الكوبي فيديل كاسترو ، والزعيم الثائر نيلسون مانديلا ، والرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو ، وكوامي نكروما ، وأحمد سيكوتوري ، وأحمد بن بيلا ، والملك فيصل بن عبد العزيز ، والملك الحسن الثاني ، والرئيس سوكارنو ، وأحمد الشقيري ، ودلال المغربي ، وجميلة بوح حيرد ، وخليل الوزير ( أبو جهاد ) وصلاح خلف ( أبو إياد ) وأول شهيد في فتح .
كثيرون وكثيرون بين الأحياء والأموات ستتوارث الأجيال سيرهم وتاريخهم لسنوات طويلة قادمة ، بما تركوا من بصمات في تاريخ شعوبهم وأممهم .
كما هناك الكثيرون الذين يعبرون التاريخ الإنساني عبورا باهتا رغم كل الطبول والزخارف اللفظية الكاذبة التي تصاحب حياتهم ، ورغم بخور النفاق الذي تحرقه جوقات المنافقين والمنتفعين والمتسلقين على أعمدة المصالح والمنافع الشخصية .
من هنا تبدو الدلالة واضحة بين العمر الزمني والعمر السياسي للإنسان ، وتبدو مجسات الاستشعار مضيئة باللون الأخضر أمام ذكرى القادة المخلصين ، وما تركــوه من إرث وطني ، وأولئك الذين لا إرث لهم .[center]