الإقصاء والتهميش في ضوء حجاجية «التمثلات الاجتماعية»
عبد الحميد كنش
خلال منتصف التسعينات بعض الباحثين في مجالي السوسيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي إلى إحداث مرصد عالمي للتمثلات الاجتماعية، تندرج مهامه في رصد، متابعة ونشر الأبحاث الإمبريقية، المؤسسة على نظرية ومنهجية التمثلات الاجتماعية، وذلك بالتركيز على تحليل أهم الإشكاليات المعاصرة كموضوع الإقصاء والتهميش الذي بات على واجهة الحدث الكوني.
كان من أثر هذه الدعوة تنظيم لقاء برشلونة الأول والذي وضع ضمن مشروعه أسئلة مرتبطة بالتيمة السالفة الذكر، فانبثقت عن ذلك قناعة تفيد بضرورة اعتماد التمثلات كآلية للمقاربة والتدخل على مستوى الواقع الاجتماعي. هذا التصور تمحور في عموميته انطلاقا من ثلاثة توجهات مركزية:
- التوجه الأول: نظري، حجاجي في أسسه، يتوخى طرح العلاقة الممكنة بين التمثلات الاجتماعية وقضايا الإقصاء، ثم البحث في طبيعة التمثلات نفسها بحسب الحالات والجغرافيا.
- التوجه الثاني: يرتكز في مجمله على اعتماد المباحث التي تهتم من جهة أولى بالفاعلين وضحايا الإقصاء من جهة ثانية.
- التوجه الثالث: يعنى بتحليل المعضلات الاجتماعية القائمة، والنتائج المنبثقة عن التمثلات الاجتماعية المرتبطة بها كحالة العطالة في ضوء تمثلات مفهوم العمل أو التشغيل.
في هذا السياق حري بنا بناء على وضعنا العام مطارحة التساؤلات التالية: كيف يمكن إعلان حلول، اقتراحات توافقية في حين هناك تنافر وتضاربات في التشخيص؟ ما هي السبل التي تسمح لنا، باعتبار قضية الإقصاء والتهميش الإنساني والمجالي كإحدى بؤر التوتر والانشغال العمومي، بالإقرار والاعتراف بدور وأهمية التمثلات الاجتماعية في عمليتي الإدماج، الحماية والوقاية؟ ثم ماذا عن كيفية إقناع مختلف الفاعلين المعتمدين، علما بغياب فاعلين بمواصفات تكوينية دقيقة، في إطار مقاربة الظاهرة بحكمها معقدة و توليدية، بقوة انخراط نظرية التمثلات الاجتماعية، وكذا بتعبئة المعرفة، استحضار الدراسات الميدانية في علم الاجتماع وعلم النفس، إذ من شأنها فتح أفق الإدراك، الإحاطة الأوسع، وكذا تحديد أسس توجهات المبادرة الناجعة، الملموسة لاحتواء التناقضات التي تنخر جسد المجتمع؟ تناقضات كثيرا ما تكون حاسمة في عملية تفكيك مسببات الإقصاء، وما ينتج عنه من اضطرابات. لقد تم التأكيد من جهة أولى، بأن الإختلالات المجتمعية تشكل كونيا اليوم أحد معيقات العبور من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الرشدية لدى فئات اجتماعية عديدة. كما وقع الجزم من جهة ثانية على أن المسؤولية عندما تتجه في أفق الامكانات الاجتماعية ، صوب الأجرأة الصحيحة، فإنها تفرز توازنا بمفهوم ودلالات قيمة التضامن الفعلي والعضوي حسب تعبيرات « إميل دوركايم » . Durkheim
التمثل الاجتماعي جملة منظمة، صيغة حركية، خاضعة لتراتبية في الأحكام، تتضمن المواقف والمعلومات التي تتبناها جماعة أو مجموعة اجتماعية ما، حول قضية أو حالة معينة. تنبثق التمثلات الاجتماعية عن مسار إجرائي للقبض على الواقع أو إعادة بناء هذا الواقع في إطار نظام رمزي، فتخضع هذه التمثلات لنوع من الاقتناع الداخلي من لدن أفراد الجماعة الاجتماعية، بمعنى أنها تبتكر وتصاغ ليتم تقاسمها بصورة كلية، فهي بمثابة رؤى للعالم تطورها المجموعات البشرية، رؤى مرتبطة بالتاريخ، السياق المجتمعي والقيم المحيلة المكونة للمرجعية. إنها تعني بالمعنى المتداول ما يعتقده الناس معرفة أو ما هم مقتنعون بإدراكه تجاه هذا الشيء، المواقف والحالات المطروحة.
تعد التمثلات في كنهها، معارف ضمنية، كما تعبر عن ذلك الباحثة «دونيز جودلي» » Denise Jodelet « «أنماط معرفية مصاغة ومتقاسمة اجتماعيا تحمل رؤية ملموسة، تطبيقية تسعى لبناء واقع أو حقيقة خاصة بمجموعة اجتماعية جد محددة.
بالاعتبار ومراعاة التمثلات لمن شأنه الدفع بالطرح القائل بأنه ليس هناك حقيقة موضوعية، فكل واقع هو تمثيل أي أنه خاضع وخاص بأفراد وجماعات تقوم ببنائه في صيغة نظام اجتماعي معرفي. هذا الواقع الخصوصي المنظم يمثل بالنسبة للفرد أو الجماعة الحقيقة نفسها. من هنا التمثل ليس فقط انعكاسا بسيطا لهذه الحقيقة؛ إنه منظومة دلالية تدمج جميع المواصفات الموضوعية لهذا الشيء، التجارب السالفة للجماعة، تاريخها، مواقفها، قيمها وتعابيرها، مما يسمح بتحديد التمثل كرؤية وظيفية للعالم، الأمر الذي من شأنه أن يقضي بمنح الأفراد والجماعات معنى لمساراتهم وسلوكاتهم بهدف فهم الواقع. يعلم الجميع بأن من مظاهر التمثلات أن تنحو صوب بناء محكوم بشكل سلمي، كما أنها تتكون من نظام مزدوج.
أولا: نظام مركزي قار أو ما يسمى «بالنواة المركزيةش المتكونة من بعض العناصر التي تعتبر في غالبيتها المعايير أو القيم التي تجيب أو تستجيب لوظيفتين:
- توليد دلالة التمثل
- تحديد النظام الداخلي بناء على العلاقات القائمة بين عناصر التمثل.
ثانيا: نظام ثانوي أكثر سيولة يتضمن جميع العناصر الأخرى للتمثلات بمعنى جل ما هو مهم مضامينيا، مما يجعله الإطار الأكثر ولوجية للتمثل بحكم وظائفه الثلاثة:
أ- تجسيده للنظام المركزي بحكم تفاعله بين النواة المركزية والوضعية التي يتحدد من خلالها التمثل.
ب- قدرته، إمكانيته لضبط وملاءمة النظام المركزي مع كل الشروط والتطورات الملموسة للمواقف، مما يعني الدور الأساسي المنوط به في تحول التمثلات الاجتماعية. إنه وعلى العموم، بداخل هذا النظام الثانوي تتشكل التغيرات الأولى: إدماج عناصر جديدة، وانصهار أخرى متناقضة للتمثل. إن مرونة هذا النظام الثانوي تسمح له بالحفاظ وحماية النظام المركزي من المضايقات.
ج- إجازته لبعض التحولات الفردية للتمثل الاجتماعي، والتي تجعل من الممكن طبقا للمرونة المشار اليها آنفا- إدماج الحالات الفردية اللصيقة بالتاريخ الشخصي للكائن وتجاربه الذاتية الحميمية.
إن تحديد الأفراد، كالمجموعات الاجتماعية، لا يتم فقط بواسطة المظاهر الموضوعية لبيئاتهم، بل كذلك بالشكل الذي يتصورونه بها وما يمنحونه إياها من دلالة وقيمة. تتخذ كل الممارسات الاجتماعية وجهة واحدة وبصورة غير موجزة أو اختزالية بفعل التمثلات الاجتماعية، ذلك لأن هذه الممارسات وكذا التمثلات غير قابلة للتفكك، مرتبطة ببعضها البعض، أي أنها تتوالد في زمن واحد، فالتمثلات تقود وتحدد الممارسات، كما أن هذه الأخيرة تعمل بابتكار أو تحويل وتغيير مسار ومضامين التمثلات.
التمثلات الاجتماعية والإقصاء
الإقصاء الاجتماعي هو نتيجة نظام مجتمعي محدد لا يمكن ببساطة تفسيره عن سبيل مواصفات المقصيين، بمعنى أنه ليس شأنا شخصيا ولا أمرا عارضا. صحيح أنه ينحو إلى اعتبار الأفراد فوق كل الحدود، بينما يتم حشرهم داخل عينات أقل اعتبارا، فالقول بالنسبة لشخص على أنه مقصى يعتبر رسالة، ما إن يتم تشفيرها على ضوء مقولة الشرط المزدوج للأنثربولوجي «باتسون» Batson - التي تعرض المواقف عند بحث رسائل التمثلات المتناقضة - حتى يصبح الشخص نفسه من أعقد القضايا التي يجب عمليا حلها، مما يعني أن العائق أمام إيجاد الحلول لا يكمن في صعوبة اللغة أو نمط التواصل بشأنه، إذ هناك بالطبع إمكانية البرهنة على أن الحالة ليست بمنعزلة، فاللائحة عريضة تشمل ذوي الحاجة، المعاقين، المنحرفين سلوكيا... إلخ إن الإقصاء هو عصارة تاريخ وتفاعلات عدد لا حصر له من العوامل حددها -بيكر- Becker في مستويين اثنين:
ردود أفعال الجماعة وكذا المؤسسات الاجتماعية المعنية.
إنه بالتأكيد لمن الأهمية إدراج المعرفة، التحليل والعمل على جدول المسببات وبعض العوامل الموضوعية للانحراف مثلا، بهدف تقليصه والسماح للمعنيين بالإدماج الاجتماعي، تحسين شروط الحياة والعيش، الفعل التنموي بكل مضامينه، إلا أن هذا التحليل غير مقنع بحسب «كوسلان» Gosselin الذي يبين من خلال دراساته أن محدودية وضعف المستوى الم، مستدلا بأن أكثر من نصف مناصب (بالمتوسط) الشغل المتوفرة بفرنسا لا تتطلب في الواقع أي كفاءة أو تأهيل.
يدفع هذا الاستنتاج للقول بأن الانحراف ينبغي مقاربته كذلك في علاقته بعوامل رمزية كثيرا ما تكون أصل ومصدر الموقف أو الحالة، فتلعب التمثلات بحق دورا أساسيا إذا ما نظرنا للمقصي باعتباره فردا بمرجعية الانتماء لجماعة ضمن حالة اجتماعية بعينها (السياق السوسيو اقتصادي والسياسي)، مما يعني أنه في تفاعل مع فاعلين متعددين: أفراد من جماعته، الفاعلون الاجتماعيون -المربون مثلا- المعنيون بمصاحبته، المؤسسات بنظامها المتضمن للقواعد والمعايير...إلخ. إن كل عنصر من هذا النظام هو بمثابة الفاعل والموضوع، المنتج والمتلقي لتمثل اجتماعي محدد. لتوضيح ما سلف، غالبا ما ينحصر البحث في العلاقة الكائنة أو التفاعل الكامن بين عنصرين أساسيين من مكونات نظام الانحراف والإقصاء: الموضوع نفسه أي الفرد المقصي وكل اللذين يعملون على إدماجه داخل النظام الاجتماعي من فاعلين اجتماعيين بمختلف مشاربهم وإختصاصاتهم.
التمثلات الاجتماعية
عند الموضوع ذاته
يقصد من مورفيم «الموضوع» جميع الحالات المستهدفة في إطار مبادرات الوقاية أي جل المقصيين المستهدف إدماجهم، (العاطلين، المنحرفين والمشردين المتعاطين للمخدرات)، فكل فعل متوجه صوب هذه الشرائح يقتضي لهدف النجاعة، أن يخضع هذه الفئات للدراسة بمراعاة بعض العناصر المحددة لتمثل الوضعية بالنسبة للحالات، فهناك وبحسب الاعتقاد ثلاثة أسئلة جوهرية.
1- ما هو التمثل الذي تحمله الجماعة المعنية بالبحث عن نفسها؟ ما هي الأسس الرمزية التي تحدد هويتها؟.
إن لمعرفة هذا التمثل أهمية قصوى ليس فقط بغرض فهم كيفية اشتغال الجماعة محط البحث، ولكن كذلك من أجل إمكانية التواصل معها. تعتبر أعمال «مامونطوف» Mamontoff نموذجا في هذا المجال، إذ تبين كيف تنتظم هوية الغجر حول بعض العناصر الرئيسية، وكيف أن تمثلاتهم تعرف تحولات ومتغيرات نتيجة العبور إلى حالة تفعيل الاستقرار بالنسبة لأشخاص السفر والتنقلات أو الرحل عامة.
2- ما هو التمثل الذي تحمله الجماعة بشأن المشكل الذي تواجهه؟ بعبارة أخرى التساؤل عن نمط العلاقة التي تنسجها هذه الأخيرة مع المشكل القائم؟ كيف تعيشه وتدمجه داخل منظومة مرجعيتها وقيمها؟ وهل بحظيرة النظام الرمزي للجماعة، مازالت مسألة الطبقة الاجتماعية بمفهوم «الإشكال» واردة؟ وكيف يمكن التمثيل لذلك؟ ثم هل المقصيون يعيشون ويقدمون أنفسهم على أنهم كذلك؟ فإذا كان الأمر بالإيجاب، فما هي إذن الأسس (النواة المركزية) لهذا التمثل؟ الإجابة عن هذه الأسئلة توردها بصورة مستفيضة الدراسات التي تناولت قضايا العطالة كتلكم التي أنجزها الباحث الفرنسي «فلمون» Flament بحيث التركيز على التحولات الأساسية التي عرفتها التمثلات الاجتماعية لمسألة «العمل» بخاصة عند شريحة الشباب فالإدماج الإيجابي لـ - اللاعمل في إطار هذه التمثلات تسمح بتفسير الأسباب أو المسببات ـ الظاهرة بشكل متناقض- التي تجعل من العطالة أمرا أقل تراجيدية في منظور الشباب، عكس ما تورده الحملات الإعلامية. هذا التطور لقيمة وتمثل «العمل» يسمح بلا شك بالمباردة والاستيعاب العميق لتطور العقليات والممارسات المرتبطة بالعطالة.
3- ما هي تمثلات الفرد أو الجماعة بخصوص المرامي والمستقبل البديل أو المقترح؟ إن تقلبات القيم كم هو الأمر بالنسبة لتطور قيمة العمل تترجم أنيا ومستقبلا التحول المهم الذي يمس جميع التصورات حول العالم والتي قد تتقاسمها بعض الجماعات الاجتماعية فبناء عليه يمكن التذكير بأن التمثلات الجديدة كثيرا ما تفضي حتما إلى تغيرات في القاعدة ومسار الإقصاء الاجتماعي، مما يفتح الباب أمام تساؤلات حول الصيغة التي تنسجها العديد من الأقليات بشأن الإدماج نفسه، الشيء الذي يثير السؤال التالي: هل صورة إدماج هؤلاء المقصيين، تطابق مثيلتها في المجتمع أي تلكم التي يسعى لتفعيلها المشرفون على عملية الإدماج الاجتماعي؟.
إجمالا تبدو معالجة هذه التمثلات في نظر الباحثين معطى مركزيا وضروريا بهدف كشف العراقيل وكذا تحديد الإمكانات والوسائل التي ينبغي اعتمادها للتدخل قصد فتح سبل الإدماج.
التمثلات الاجتماعية
عند الفاعلين الاجتماعيين
عرفي لا يفسر في شيء العدد الهائل للعاطلين الفاعل الاجتماعي نفسه كما لاحظ «سيرج موسكوفيتشي» Serge Moscovci بقبضة إغراء مزدوج، فإما أن يخلص للموروت «اللوفيني» Lewinienne نسبة ل Lewin Kurt 1890-1947 صاحب اطروحة La » dynamique des groupes « الممثل في المبادرة المفتوحة، المتوجهة نحوالرغبة في الكشف عن التمثلات كما هي حاضرة بوعي الممارسين الاجتماعيين أو أن يقتنع بصحة المقاربات الحديثة القائلة بضرورة بحث الظواهر حيث الرغبة في التركيز على خصوصية التمثلات التي تناسب الحالة وكذا الفاعلين الاجتماعيين.
إن المقاربتين معا تحملان الفائدة المتوخاة، فهما يكملان بعضهما البعض. للفاعلين الاجتماعيين إذن ، مهنيين أو عاملين بالمؤسسات، دور ووظيفة تتحدد في تفعيل ممارسات الوقاية وكذا الإدماج لمواجهة الإقصاء، الأمر الذي يجعلهم دون جدل حاملين لتمثلات من طبيعتها التدخل في إطار نظام التفاعل المومإ إليه سلفا. فهناك نوعان أو صيغتان للاستمارة تحظيان بأهمية قصوى.
أ- ما هي نوعية التمثلات التي يحملها الفاعلون في مجال الإدماج؟ بمعنى كيف يتصور رجال التربية، العاملون الاجتماعيون، رجال الشرطة، القضاة، مبادرات الوقاية؟ ماذا يعني في منظورهم فعل الإدماج؟ كيف تحدد ممارساتهم من خلال تمثلاتهم؟ وكيف يمكن الكشف من خلال سلوكات مهنية متناقضة عن انعكاسات تمثلات غير معلن عنها؟
ترفع الأبحاث التي قدمها «كيميلي» Guiemelli الحجب عن تواجد تصورين لدى رجال الشرطة فيما يعنى بالتمثلات الاجتماعية للمنحرف: أحدهما يرتكز على محددات داخلية يحملها المنحرف نفسه. ثانيهما، ينحو صوب عوامل خارجية ترتبط بالسياق والوسط الاجتماعي. إن كلا التمثلين ناتج ومولد لممارسات راديكالية مختلفة تجاه المنحرف؛ متسمة بالعنف فيما يخص الحالة الأولى وبالوقاية فيما يتعلق بالحالة الثانية.
ففي الإطار نفسه وتبعا للأطروحة ذاتها، توضح «كاسطرا» Castra الباحثة النفسانية، بأن نفس النموذج المفضل والأكثر استحواذا للعاملين الاجتماعيين هو الحضور ومصاحبة عموم ذوي المعاناة، لا القول بمحاربة الإقصاء كما يحلو للبعض استعمال ذلك. هذه الأطروحة قادتها إلى استنتاج استفزازي، مفاده أن العمل الاجتماعي الكلاسيكي يضفي نوعا من الاستمرارية ويعيد إنتاج الانحراف عوض مواجهته. هذا المسار أو الإجراء يتم على سبيل جعل الإقصاء طبيعيا بالمعنى الذي تحويه المفاهيم السببية، والتي تجعل من الذي وقع عليه الفعل سبب، مصدر حالته وموقعه.
ب- ما طبيعة تمثلات الفاعلين الاجتماعيين صوب الفئات موضوع المبادرة والتدخل؟ ثم وكرد فعل، كيف يتمثل المقصيون هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين؟ فارتباطا بتمثل الدور، تتدخل كذلك تمثلات الشركاء: فما هي تمثلات المنحرف للشرطي، العاطل لوكالة التشغيل وأرباب العمل، المعاق للمجتمع وللمربي، الكسول للمعلم؟ إن كل عون اجتماعي يتوفر بصورة معرفية من خلال تجربته، نظام قيمه، على صورة للآخر أي بتمثل يشتغل بالنسبة إليه، كإدراك إضافي مفترض ينحو بالعمل والتأثير مباشرة على ممارساته، ونموذج العلاقة التي ينسجها مع الجماعة المعنية. إن الجميع يدرك الدور الأساسي الذي تلعبه تمثلات المعلم لعوالم التلميذ بناء على إنجازاته وتفوقه المدرسي. تقول «كاسطرا» Castra بأن «مدرسي» التلاميذ الذين في وضعية صعبة، لا يحظون بالتقدير وذلك بالموازاة مع صورة التلاميذ لأنفسهم ? على مجموع مستويات الاستمارة المعمول بها غالبا (الاجتماعي، المدرسي، الفزيقي، المظهري، السلوكي، القيم الخاصة) وليس فقط على مستوى قيمة المدرسة. يرتبط انعدام التطابق بمجموع مقومات حياة التلميذ، بمعنى أنه غير لصيق ومحدد بمدى الإنجاز المدرسي. إنه معني بكل المناحي التي يجب على المدرسين أن يتحروا فيها نقاط الضعف والفجوات لتفاديها. إن الأمر يتعلق هنا بتفاؤل عام يدمج الحياة الخاصة للتلميذ، قيمه وقناعاته الذاتية.
فخلاصة القول، النموذج الأصلي للإخفاق والفشل العام حاضر. لذا فمن المحتمل أن تعميما شخصانيا كهذا يتضمن قدرا لا رجعة فيه، إذ من الممكن أن نغير التلميذ لا الطفل. من هنا يتضح الدور المركزي الذي يمكن أن تقوم به التمثلات الاجتماعية في ممارسات وعمليات الإدماج.
وظائف التمثلات الاجتماعية
أغلب المقاربات التحليلية للإدلاء والتذكير بأن جل الممارسات الاجتماعية، وبالخصوص المتعلقة بثنائية الإقصاء والإدماج الاجتماعيين، هي بمثابة أنظمة للمبادرة، محددة اجتماعيا، وفي الآن نفسه استدلالات وبراهين اجتماعية غير مجردة، علما بأنها قد تتصف بالحضور في إطار رمزية اجتماعية تحيط بنظام العقليات والتمثلات. تحيل مواقف وحالات الإقصاء بكل دقة على الحالات التي يعتقد من خلالها أن التمثلات تقر وتحدد نوعية الممارسات، مثلا الحالة ذات الحمولة العاطفية القوية، بحيث تعطى الأهمية أيضا لمرجعية الذاكرة الجماعية ثم أخيرا حيث الفاعل يتوفر على استقلالية بالنسبة لشروط وقيود الحالة.
تسمح هذه التمثلات الاجتماعية في نهاية المطاف بتحقيق ثلاث وظائف مركزية في مسار إجراءات ثنائية الإقصاء والإدماج.
أ- الوظيفة الهوياتية: وهي التي تحدد كيف تنظر جماعة اجتماعية لذاتها وكيف تنظر للجماعات الأخرى التي هي في تفاعل دائم معها.
ب- الوظيفة التعليلية: وهي التي تمكن من التفسير بدءا، بل وفي الختم أساسا، لبعض الممارسات والتطبيقات الاجتماعية.
ج- الوظيفة التوجيهية: وهي تنشغل بمجموع الممارسات التي تفتح بوجود التمثلات الاجتماعية، الباب لكل جماعة، بهدف التوفر وامتلاك الآليات الضرورية للتحكم في مجالها وبيئتها وكذا في تحديد أفعالها، فهناك وبالتوالي:
- نظام للتحديد الاجتماعي وهو ما يسمح للجماعة بوضع وإخضاع الأمر للنظام تم توصيف وخلق التراتبية داخل البيئة الاجتماعية.
- نظام لتأويل الواقع يكون مناسبا لنموذج التخوفات وكذا القيم التي تحملها الجماعة.
- نظام بصيغة المبادرات والانتظارات وهو ما يمكن الجماعة من تفكيك الواقع والتحكم فيه ثم التحديد المسبق لعلاقاتها بالجماعات الأخرى.
على سبيل الختم يمكن القول، بأنه بغض النظر عن الاعتقادات، المواقف شبه السائدة والممكنة، فإن نظرية التمثلات الاجتماعية أثبتت وجودها وجدارتها لأنها التمست لنفسها سبيل الحضور المعرفي، الحجية والتطور، كما أنها محظوظة لعدم وقوعها في شراك المسارات الابستمولوجية المنغلقة، وذلك راجع لانفتاحها على جميع الأسئلة بجملة مصادرها سواءأكانت علمية، اجتماعية أم ثقافية، مما يترجم مواجهتها لأزمات متعددة الأبعاد والمكونات.
- BECKER
Etude de sociologie de la déviance
Paris AM.Métailité
- CASTRA
Insertion, exclusion, perspectives/ psychosociales
Université de Bordeaux
Explication causales et modes d?exercices professionnel en travail social CIDPS N 22 Année 1994
- FLAMENT
Structure et dynamique des représentations sociales
« in représentations sociales »
Paris PUF
- JODELET
Les représentations sociales
Paris PUF
2008/5/10 جريدة الاتحاد الاشتراكي
..............................................................................