بعيـــــداً عن السياســــة
عبد الشافي صيام ( العسقلاني )
30 أبريل 2008
ــــــــــــــــــــ
يقول أحد المؤرخين .. إذا أردت أن تكتب عن التاريخ ، فعليك أن تخرج من التاريخ ، ونقول .. إذا أردت أن تكتب عن السياسة ، فعليك أن تخرج من السياسة .
ـ في اعتقادنا ـ بأن ما يقصده المؤرخ بالخروج من التاريخ هو الحيادية والمصداقية والمعلومة الصحيحة الموثقة ، فسرد الوقائع والأحداث والسير يجب أن لا تخضع لأية عصبية أو انحياز وتعاطف مع الحدث خارج الموضوعية الواجب توفرها في منهجية الكاتب أو السارد أو المدوّنْ . وكذلك الحال أيضا في السياسة .
تحت هذا العنوان " بعيدا عن السياسة " كنت قد فرغت من كتابة مقالٍ لإرساله للنشر إن أجيز نشرهُ .. فليس كل ما يُكتب يُنشرْ ، ولا كل ما يُنشر يُقرأ ، ولا كل ما يُسْمَع يُقال ، ولا كل ما يُقال يُسْمع .
أثناء مراجعتي لما كتبت " مَسَحْتُ " المقالَ بطريق الخطأ وكأني أوأكدُ ما قاله المؤرخ بأنك إن أردت أن تكتب عن التاريخ فعليك أن تخرج من التاريخ فخرجت من المقال ومن حالة الحضور الذهني التي يصعب على الكاتب استرجاعها لإعادة كتابة المقال بنفس الصياغة والبناء . وإن كانت الذاكرة تحتفظ بعناصره الرئيسية .
عندما شرعت في كتابة المقال كنت متأثراً بمكالمة هاتفية تلقيتها من صديق اتصل معي بعد سنوات ربما تزيد على ربع قرن لم "نتهاتف" خلالها ولم نلتق ، لكنني تعرَّفتُ على صوته رغم هذه المدة الطويلة وكأننا افترقنا بالأمس وعرفت من رقم التعريف الدولي الذي يظهر عادة على "شاشة" الهاتف أن مخاطبي يتحدث من غزة الفلسطينية المحاصرة التي قاومت "نابليون" وأعاقت وصوله إلى عكا الفلسطينية ، ها هي اليوم تعيش حصارا أشد وأقسى وأبشع من حصار عكا الفلسطينية وستخرج بصمود أهلها الرجال منتصرة مهما تعاظمت وحشية العدو الصهيوني المحتل ومهما تقاعس الأهل عن نصرتها لكسر هذا الحصار الظالم .
صحيح أن أهلنا يدفعون ثمنا غاليا لا يُخـَفِّفُ من قسوته وآلامه بَليغُ الكلام وتمجيد المواقف وذبح الشعارات على قربان المواقف الكاذبة ، وصحيح أنهم يعيشون في ظروف إنسانية صعبة للغاية ، ولا يمكن وصفها أو تصنيفها تحت أي من مُسَمَّياتِ القهر والإذلال والوحشية ، وهم يُصْبِحُونَ على غارةٍ صهيونية ويُمْسُونَ على بيانٍ من هذا الفصيل أو ذاك .
انقطعت المكالمة مع الصديق أكثر من مرة والذي كان حريصا أن يُوْصِلَ إلى مسامعي أكبرَ قدر من الكلام عن الوضع في قطاع غزة بشكل خاص ووضعنا الفلسطيني بشكل عام .
وكعادته استطرد محادثي قائلا : لقد أعطينا ثورتنا زهرة شبابنا ، ولم نشعر يوما ببرد الحياة لأننا كنا نستظل دفئا وأمنا وأمانا وأملا بكوفية قائدنا ورمزنا الشهيد أبو عمار ، ألست معي بأننا نفتقدُ الآن لِلَحْظةِ العطاء ولحظة الموقف التي سارت بالثورة من بداية انطلاقتها المباركة بقيادة فتح وإدارة قادتنا الكبار المؤسسين للحركة وباعثي الروح في شعبنا .
أبو عمار ، أبو إياد ، أبو جهاد ، أبو يوسف النجار ، أبو علي إياد ، أبو السعيد ، كمال عدوان ، عبد الفتاح حمود .. الرجال الذين ذهبوا وكأن كل شيء قد مضى معهم .
أبو عمار برمزيته العالية وعبقريته ورجولته التي لم تـُعْطى إلا للقليل من القادة والزعماء !!
وأبو إياد رجل الموقف في لحظة الخطر !!
وأبو جهاد حارس البندقية وحامي الرصاصة !!
وأبو السعيد عقل الثورة وفكرها المتقد !!
وبقية الإخوة بكل صفاتهم النضالية والأدوار التي لعبوها منذ أعلنت فتحُ انطلاقتها وأطلقت رصاصة التحرير الأولى .
أتـَذْكُرُ كيف كنا نُغيِّرُ مكان الاجتماع الحركي من أسبوع لآخر لنبقى بعيدا عن أعين الرصد والملاحقـة ، وكيف كنا ننجح في تبرير سبب غيابنا ، وكيف كنا نشعر بلذة الخوف أثناء سفرنا من بلد إلى آخر لأن كل واحد منا كان يشعرُ بأمانة المسئولية التي يحملها .
لم أقاطع الرجل لأنني أحْسَسْتُ بمدى تأثره وجرحه النفسي وهو يجتاز واقعنا الذي نمر فيه " كفتحاويين " وقد خرجنا من دائرة الفعل والحدث الحقيقي إلى دوائر غريبة عنا . كما شعرتُ أنه لا يريدني أن أقاطعه وأشاركه حتى ولو بعبارات المجاملة المعتادة ، وهو يعلمُ أن صداقتنا ما زالت تحكمها قواعد الصدق والوفاء والالتزام والمحبة بعيدا عن التشويه والنفاق والكذب والمصالح الشخصية ولو على حساب الأخلاق والشرف والعقيدة السائدة الآن ـ وللأسف ـ على كل المستويات ممن يَدَّعونَ أنهم في مواقع المسئولية ، ولا أغــْـرَبُ ممن يَلتحي نـَعلَ حِذاءٍ ، ويحفظ سطرين من " دَشِّ " الكلام يسوِّقُ بهما نفسه بأنه الثائر الهمام ، وحامل الشهادات العلمية العالية ، وهي في الحقيقة شهادات تزوير ونصب واحتيال .
لا تدري كم أشعر بالظمأ إلى لقاء نستذكر فيه مواقف الرجولة والعزة والتضحية الحقيقية ، ونستحضر ذكرى إخوة لنا سبقونا على درب الشهادة في معارك المواجهة مع العدو الصهيوني أو معارك الدفاع عن الثورة وعن القرار الفلسطيني المستقل الذي كان من بين أعظم إنجازات رمزنا ورئيسنا القائد الشهيد أبو عمَّــار والذي تم استبداله الآن " بعلبة بقلاوة " من الشام .
رفعوا شعار الإصلاح والشفافية ، واستبشرنا خيرا ، وبدأ العديد من الكادر الفتحاوي يستعيد روحية الالتزام . فإذا بالإصلاح هو عملية تدميرٍ منظمةٍ للحركة ولمنظمة التحرير الفلسطينية ومسح للمرحلة "العرفاتية" وإذا بالشفافية تتحول إلى "شـَـفيّة " وعلى رأي المثل الفلسطيني : " من الباب للمحراب أُقبض والكل قابض " . وها نحن ننتظر المؤتمر السادس للحركة إن عقد عبر تنازع المصالح والصلاحيات ، وتصارع القوى والتيارات .
قلت للصديق نحن نقف على أخطر مفترقات طريق مسيرتنا ، فبعد ثلاثة وأربعين عاما من عمر الثورة وعمر فتح ، وبعد هذا التاريخ النضالي الطويل نجد أنفسنا عاجزين على إيجاد قيادة ثورية صالحة قادرة على إعادة اللحمة للجسد الفتحاوي ، وقادرة حتى على تجاوز أزمة الانقلاب الذي نفذته حركة حماس ، وحماية أبناء التنظيم مما يتعرضون له ، ولا نسمع إلا غادر واستقبل واجتمع وصرح وشجب وأعلن دون تحقيق أي نتيجة تذكر على مسار ما يسمونها محادثات ومفاوضات السلام الخارجة من "شرم الشيخ" والداخلة في "أنا بوليس" ولا ندري أين ستكون "الأنة" القادمة .
لن أدخل في " الأنــــات " فقط سأشير لأكثر من تصريح على لسان مسئولين كبار ـ كما يسمونهم ـ بأننا ندفع رواتب لـ 76000 ألف موظف في قطاع غزة مقابل 72000 ألف موظف في الضفة الغربية وقد اتصل بي اثنان من موظفي السلطة في قطاع غزة ممن التزموا بعدم الانصياع لنتائج الانقلاب ، قد قطع رواتباهما ، وأنا هنا لا أطالب بإعادة راتبيهما أو دفع ما لم يدفع لهما وهذا من حقهما ، لكنني أطالب فقط بحذفهما من الرقم المعلن من باب المصداقية الغائبة . ناهيك عن قضايا كثيرة مشابهة تمت المراجعة فيها دون نتيجـة حتى الآن ، لأن من يُسيِّرُ الأمور هم مجموعة " الشـَّفْ " على مستوى كل المؤسسات الداخلية والخارجية والتي تعمل على قاعدة " إذا هبت رياحك فاغتنمها وإني لغانمها " .
لكن الريح مهما هبت فهي ستتحول وسيأخذ كل صاحب حق حقه إن بالقانون أو بغير القانون ، وسَيُحَصَّلُ الحق حتى من ذرياتهم .
كانت كلمــاته الأخيرة لي قبل أن ينهي مكالمتــه .. يا أخي ..
لقد كنا نســمع من الآبـاء والأجــداد بأنهم كانــوا يؤرخــون قديما بِسَــنةِ " الجـــراد " وسَـنة " الكوليرا " وسَــنة " الطاعون " وكلها مناسبات غير سارة بالطبع ، فهل سَتنقلُ الأجيال القادمة عنـَّا تسمية مراحلنا النضالية بأسماء " السيئين " الذين قادوا هذه المراحل أم أنهم سيكونون خارج التاريخ ؟
ودعته بالدعاء والصمود وطمأنته بأن الجواب سيكون من خارج عنوان المقال بعيداً عن السياسة .