قصة : جسد واحد لأمكنة متعددة
الكاتب: ادريس الواغيش
أصبح (الدوار الحضري) المرمي على أطراف المدينة صاخبا كعادته. ذهاب و إياب إلى السقاية المنبطحة أمام دكان السوسي. بائع الحوت تتبعه سحابة من الذباب الأزرق. شباب عاطل متكىء على السور العازل للدوار حتى لا يتمطط أكثر!. على هذا الإيقاع الرتيب استفاق يوسف هذا الصباح. لقد هده اللتعب بعد زيارة غير متوقعة للبادية ، حيث يرقد جده مريضا منذ أسابيع.
لم تغير المدينة فيه طباعا متأصلة اكتسبها منذ أن كان طفلا صغيرا بالبادية ، فبقي وفيا لعادات القرية وسكانها الطيبين ، يوسف حديث العهد بمدينة لا يعرف عنها سوى الاسم، أبوه هاجر من القرية بحثا عن العمل ، وهروبا من جفاف طارده لسنوات في قريته. لكنه رحل من دوار بالبادية الى دوار آخر بالمدينة. لم يخطر ببال يوسف أن مكر الزمن يتربص به ، حين وجد نفسه فجاة في دوار اغتصبت فيه جمالية الطبيعية ، ورائحة الخبز الطري ، الخارج لتوه من الفرن البلدي، وتسامح الناس الطيبين.
أصبح يوسف يعيش في نسخة (حضرية) رديئة لدواره الأصلي، (قمامة) تجمع نفايات الكاراجات ، وقصدير المعامل المفككة ، وعلب الكرطون التي فقدت هندستها ، فأصبحت بلا زوايا. دوار يحتضن بلا رغبة منه ، شبابا عاطلا ، شيوخا مسنين بدون رعاية وأطفال نصف عراة. كان يوسف في القرية قريبا من المدرسة ، أما الآن وهو في (دواره) الجديد ، المحسوب على المدينة ، أبعد منها! كثيرا ما يتساءل: " لماذا جاء بنا أبي إلى هذا المكان ؟ ألم نكن في البادية أحسن حالا مما نحن عليه الآن ؟ أين نحن من جيراننا الطيبين؟ أين خالتي الضاوية ؟ أين إمام المسجد العجوز ، الذي لا ينقطع عن الدعاء لنا بالخير ؟ أين قطعان الغنم والماعز ، وهي مارة أمامنا في المساء ؟ أين وأين...؟ ". ثم ما يلبث أن يقطع عليه أبوه خلوته: " مالك يا يوسف ؟ أتحس بشيء...؟ ". هكذا يعيش يوسف أيامه في غدوه ورواحه للمدرسة ، تتعثر خطاه في أسئلة أكبر من سنه : لماذا وكيف ؟ أصبح يسابق عمره !.
اغتصبت فيه طفولته اليافعة ، فأصبح يفكر بعقلية أصيبت بشيخوخة مبكرة. أرهقته الأسئلة التي تكبر مع أيامه ، و تتكدس يوما بعد يوم . يوسف أقرب الى (يوسف)، بلاغة الوسامة بادية على محياه ، رغم بعض الندوب من زمن الطفولة ، وحدها من يعكر معالم الوجه الجميل. ذكي وصادق . براءة الاطفال موشومة بصفاء الهواء ، وطيبوبة الأرياف ، تأسر عقلية صغيرة ، وفية لتقاليد البادية وطقوسها .
كان يوسف بالبادية يمرح بين أشجار التين والزيتون ، يستمتع برؤية العصافير تحتفل بحريتها فوق أشجار الصفصاف ، تغرد بلا رقابة بين أشجار العليق ، أو فروع الكرمة الملتوية على أغصان شجرة الدردار العالية. ينعم بالظلال الوارفة صيفا، وبصفاء الثلوج البيضاء شتاء. يستنشق الهواء النقي على مدار السنة . وإذا به فجأة بين أربعة حيطان من قصب، وسقف من الزنك والكرطون ، تدخل الروائح الكريهة المنبعثة من أكوام الأزبال إلى خياشمه بدون استئذان ، لمجرد ما يخرج من باب المنزل -البراكة. لكن الأطفال هناك حيث البئر والبيدر يرون عكس ذلك تماما. يوسف الذي يعرفونه ، ليس هو الواقف أمامهم الآن بلباس المدينة ، قميص منمق بحروف لاتينية بارزة ، وحذاءرياضي يحمل علامة تجارية عالمية مشهورة !. لقد ودع الحذاء البلاستيكي إلى الابد. أليس هذا كافيا لإثارة الانتباه ، أو لربما الغيرة والحسد بين أطفال القرية كلها ؟ لكن يوسف له رأي آخر. هو لايرى الأشياء بهدا الاختزال السطحي . أعماقه تنطق بلغة أخرى. أحاسيسه تقول شيئا مختلفا. آه لو فكت عقدة لسانه ، وتكلم بلسان عربي فصيح. سيسمعهم كلاما آخر، وسيعرفون أشياء أخرى غير تلك التي يوحي بها مظهره القادم من المدينة! .هم في القرية لا يعرفون دور الصفيح والأزبال المزمنة ، ولا قيمة (أم الحسن) وجمال الماء المتدفق من الشلالات والسواقي ، لا يدركون أن يوسف لم يعد يرى من الطيور إلا (الزوش) يقفز ككائن غير مرغوب فيه ، لالتقاط الفتات من فوق السطوح والطرقات !!
أصبح اسم الدوار السييء الذكر ، يرن في أذنيه صباح مساء، يطارده في سجلاته المدرسية ووثائقه الإدارية. بالأمس كان يفتخر بانتمائه للدوار، لكنه اليوم ينكسر لسماع هذه اللفظة اللعينة ، الملتصقة به غصبا عنه. عالمان متناقضان ، يعيشان في جسد صغير متقل بالهموم.
مفارقات تمر أمام عينيه كل يوم ، وهو في طريقه إلى المدرسة. يقرأ عن أشياء كثيرة لا يعرف إليها طريقا: السينما ، التلفزة بالالوان، الكهرباء ،غرفة النوم ، ركوب الحافلة...الحاسوب!!. هو لا يعرف إلا الحساب بأصابعه ، أو بعملية الجمع ، كما تعلمها في المدرسة. لم يركب يوما حافلة في القرية أو المدينة . كل ما يعرف سيارة أشبه بحافلة تأتي ليلا لتنقلهم تحت جنح الظلام ، فيصبحون في البادية أو العكس! يسأل الأستاذ التلاميذ: " من يتحدث لي عن رحلة عبر القطار أو الحافلة ؟ ". يرفع البعض أصابعهم ، لكن يوسف الحاصل على أعلى معدل في قسمه ، يلوذ بالصمت. يسأل الأستاذ ثانية : " وأنت يا يوسف ؟ ألم تقل أنك تسافر كل عام إلى البادية ؟ ". يصمت لحظة ، ثم يجيب ورأسه يكاد يغرق بين كتفيه : " نعم يا أستاذ...لكنني أسافر ليلا رفقة أسرتي مكدسين مع أناس لا أعرفهم ، فيغالبني نوم لا أستفيق منه إلا في الصباح على أصوات الأنغام والفلاحين في الحقول. وقد أشرقت شمس القرية وديعة كما عهدتها قبل أن أعرف المدينة !! ". هكذا أصبح يوسف الصغير منقسما على ذاته المنذورة لأمكنة وأزمنة متعددة. هو لا يعرف لأي جيل ينتمي ؟ و لا لأي مكان ينتسب ؟. يلعب الكرة في الملعب المشبع بالغبار ، القريب من (الدوار الحضري ) فإذا به فجأة ينزوي ليفكر في أصدقاء تركهم غصبا عنه وعنهم في البادية . ترى أين هم الآن ؟ يطاردون العصافير أو يدحرجون كرة بلاستيكية بالكاد يحتقن فيها شيء من الهواء ؟. حين يكون في البلدة ، ينسجم مع ذاته ، مع أصله ، ومع أصدقاء الصبا، لكن فجاة وهو يجري بالمحاذاة مع الوادي ، تخطر بباله صور أصدقائه بالمدينة : " أترى مازال خالد وفيا لعادته، يتسلل مع (ولد فاطنة) بين الركاب إلى الحافلة الهرمة في رحلة خوف من مراقبين يطاردونهم كالاشباح ، ويباغتونهم ليبهدلوهم بلا شفقة ؟".
أناس شديدو القسوة على الأطفال، لا يعرفون ظروفهم ، ولا يسمعون لشكواهم أو استعطافاتهم. كم مرة سلبوهم بعض الدراهم أو السنتيمات بدون رحمة. وحين لا يجدون شيئا، يأخذون خف الرجل اليسرى أو اليمنى ليلقوا بها من النافذة ، ثم يرمون بهم كأشياء لا قيمة لها وسط المدينة ، والمارة ينظرون إليهم بازدراء . أليست معادلة تستعصي على عقلية طفل صغير ، مثل يوسف ؟!.
ادريس الواغيش / فاس المغرب