"عَبَّــــــــــــــــاسْ"
عبد الشافي صيام ( العسقلاني )
ـــــــــــــــــــ
"عَبَّاسْ" أو "أبَّاسْ" كما يلفظه الإيرانيون بلكنتهم الفارسية المميزة ، والذين كانوا يعملون في الخليج العربي منذ سنوات طويلة .
ولقد تعرَّفت على الظاهرة "الأباسية" ولا أقول الظاهرة "العّبَّاسية" حتى لا يُفهَمَ الكلامُ على غير محمله فيَعْبِسَ العَبَّاسون ويغضبَ أهل العباسيِّة ( الحي القاهري المعروف ) في مصر .
وللخروج من الجو السياسي المشحون وما تعيشه الساحة الفلسطينية من تعاسة المواقف الرسمية وتعثرها في كل النواحي وعلى كل الجبهات .
فجبهة الوحدة الوطنية ووحدة الموقف معطلة بسبب الانقلاب الذي قسم ظهر الشرعية الفلسطينية وعطل مسيرة العمل وأحبط حالة الأمل التي كنا متعلقين بها .
وجبهة التفاوض لا يلوح فيها بصيص أمل أن تحقق أي تقدم أمام مواقف العدو الصهيوني المخادعة والتي لا تريد سلاما حتى وإن لم يكن شجاعاً .
وجبهة الإصلاح وإعادة بناء المؤسسات وتفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية وإحياء مؤسساتها الأساسية ، كاللجنة التنفيذية والمجلس الوطني الفلسطيني ، وإنهاء حالة التشرذم القائمة والتي تضر بالعمل الفلسطيني وتبعدنا قسرا عن الوصول لأهدافنا الوطنية التي ناضلنا من أجلها وضحى في سبيلها كل شهدائنا وعلى رأسهم الشهيد الرمز ياسر عرفات .
رأيت أن من حق الإنسان أن يخرج إلى فضاء أخر .. لا ليستريح أو يخرج من دائرة الحدث ، وإنما ليفتح نافذة على الأمل الجديد .
ولنعد إلى البداية ، وإلى صاحبنا " أبَّــاس" . ففي مطلع عام 1965 عمل معنا شخص إيراني فراشاً في المكتب وكان ممتلئ الجسم وله شارب طويل لا تكاد تنزل يده أو تتوقف عن تمليسه . سألته عن اسمه فقال : "أَّبـَّاسْ" وكرَّرت سؤالي أكثر من مرة إلى أنْ عرفت أن اسمه "عّبـَّاسْ" ، ولم تمض أيام حتى اكتشفت أنه على درجة عالية من الغباء والسذاجة والذكاء السلبي رغم مظهره الذي يوحي بعكس ذلك ، أو ما يصنف في علم الاجتماع ( ضحية المظهر ) .
الصدفة تضرب أحياناً مواعيد سعادة لا نحلم بها ، ولا أدري كيف خطرت ببالي فكرة دعوة " أبَّـاسْ " للإقلاع عن عادة "تمليس شاربه" ، فقلت له يا أبَّـاس أنت رجل وعَيبٌ أن تبقى هكذا يَدُكَ على شاربك فذلك معناه أنك تشك في رجولتك وتحاول التأكد منها بهذه الحركة التي بت أسيراً لها ، نظر إلى بشرود واضح وقال إنها عادة يصعب التخلص منها فماذا أفعل ؟
قلت له الأمر بسيط .. عندما أنادي عليك يا أبـَّـاس وأشير بيدي لك أن تنزل يدك ، فما عليك إلا أن تنزلها بسرعة . طبعا الحوار لم يكن بهذه الكلمات .
لم تمر لحظة حتى عادت يد " أبـَّاس" تعبث بشاربه .. نظرت إليه وناديته بنبرةِ تنبيه .. " أبَّـاس" وأشرتُ بيدي أن يُنزلَ يده عن شاربه ، وكانت دهشتي كبيرة للطريقة التي استجاب بها لطلبي ، وإنزاله يده بحركة لا إرادية وكأنَ مَسَّاً قد أصابه ، وبعد دقائق التفت إليه فوجدته ممسكا بطرف شاربه فصرخت فيه " أبَّـاس" وأشرت بيدي وكانت استجابته كالمرة السابقة .
وبعد شهر تقريباً أصبحت استجابته لندائي شبه آليَّة لكنه انتقل إلى مرحلة أكثر تطوُّراً إذ توقف عن تمليس شاربه وصار كلما حركت يدي يقفز في الهواء حتى لو واصلت تحريك يدي لدقائق ، وبدا لي وكأنه قد تحوَّل إلى آلـةٍ يحركها جهاز التوجيه ( ريموت كونترول أو تيليكومند ) .
صاحبنا " أبَّـاس" هذا ، كان يُعِّـدُ لنا الطعام أنا ومسئولي حيث كنا نعيش بدون زوجاتنا . وحدث ذات يوم أن جئنا للغداء وكانت الوجبة "عدس" فتناول صاحبي لقمة وأنا كذلك لكننا ابتلعناهما على مَضض ، وتناولنا الثانية وكل واحد منا يحاول طرح سؤال لكننا نقول ربما أن الطعم الذي نتذوقه ليس من الطعام ، وعلى غير المألوف كلانا كان يسترق النظر وليس السمع للآخر ليرى إن كان يشعرُ بما يشعرُ به الآخــر .
وأخيرا قال صاحبي كيف تتذوق الطعام فأجبتهُ أشعر بطعمٍ مالح ثم بطعم حلو ، فقال أما أنا فأشعر بطعمٍ حلوٍ ثم بطعم مالح ، فقلت ممازحا ربما هذه ستكون بداياتنا ونهاياتنا في هذه الحياة .
ناديت على " أبَّـاس" وقلت له لن أوقف يدي عن الحركة إذا لم تقل الصحيح ، خذ هذا الطعام وتذوقه وقد بدت النتيجة على ملامحه وهو يأكل لكنه تدارك الموقف وقال اسمح لي أنا نسيت عندما أعددت الطعام وضعت مِلحاً كثيرا وقلت أصَحِحُ الخطأ بأن أضيف إليه السكر .
ضحكنا ونسينا أننا سننتظر بلا طعام حتى العشاء ، وأن من يبتليه الله بـ " أبَّـاس" سيكون كمن قالوا .. إن البقـر تشابه علينا .
وكما قلت لصاحبي ممازحا بأن بدايته حلوة ونهايته مالحـة ، وبدايتي مالحة ونهايتي حـلوة .. فلم تصدق رؤيتي إذ سبقني رَحِمهُ الله شهيداً في أحداث أيلول الأســود ، إلى أحلى النهايات وأشرف النهايات إلى الشــهادة في سبيل الله .. أما أنا فقد بقيت أروي لكم صفحة من صفحات "أبَّـاس" لكن بدون شـــــارب !!