منتديات نبراس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات نبراس

منتدى يهتم بعالم الابداع و التربية والتعليم والثقافة و الحوار
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 قمر آيل للسقوط

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حليمة الاسماعيلي




المساهمات : 3
تاريخ التسجيل : 27/02/2008

قمر آيل للسقوط Empty
مُساهمةموضوع: قمر آيل للسقوط   قمر آيل للسقوط I_icon_minitimeالخميس مارس 27, 2008 10:22 am

قمر آيل للسقوط


ترسل عينيها على طول الزقاق , والقمر من بعيد يسترق السمع والنظر , يبدو فضوليا حين يفضح عينيها المعذبتين . تأتي أصوات السيارات المسرعة , تعبر الشارع الرئيسي, أبواقها النافرة لم تعد تزعجها الآن, تجد فيها أنيسا يقطع معها وحشة الليل الساكن الا .من رتابة وقع قطرات الماء المتساقطة من صنبور المطبخ .
ترشف من فنجان القهوة السوداء الساخنة, تضعه فوق المائدة, ترفع أصابعها تقلبها أمام عينيها, تفردها و تثنيها, تخشبت قليلا و ظهرت فيها العروق الخضراء, تضم قبضتها في قوة ثم تفردها ببطء, تحرر شعرها البني القصير من المشبك تداعب خصلاته, لترسل عينيها الى النافذة من جديد. استقبل وجهها لسعة برد آخر الليل, تحملق بالقمر, تنكس وجهها ثم ترفع عينيها و تديرهما حوله. شبكت كفيها فوق صدرها و استسلمت لبكاء طويل مكتوم. يوما قال لها أنه يخشى نظرة القط الذي يهم بالوثوب من عينيها, ضحكت, وأرسلت كفها تحتضن أصابعه الباردة تدفئها و تسحبه الى الأريكة ليجلس قربها, تحكي له عن أحلامها , تصف له شكل الحياة التي يحتاجها و ستهبها له, تلك الحياة التي تليق برجل باذخ الحضور مثله,متألق, أنيق , وسيم, متأجج, ذكي, طموح, ودود, رومانسي, هذا الرجل الذي وجدت فيه ضالتها بعد دراسة متأنية لجميع طالبي يدها, أعطته يدها, قلبها و روحها لأنها توسمت فيه ألا يكون صورة مكررة لوالدها قاسي الملامح, غليظ القلب, نافر الأعصاب, الذي كان دوما مصدر ازعاج طفولتها و صباها. هذا الرجل الذي اختارته من دون الخلق ليشاركها الجدران و يقتسم معها الأطباق و يزاحمها في مربع الحمام ويتثاءب أمامها في حجرة النوم.
اختارت هذا الزوج مع سبق الاصرار و الترصد وهي لا تدري أنها تبني حاجزا كالجبل يحجب عنها ضوء القمر المتسلل, فلا يبدو سوى شعاع دائري يحيط كهالة شاحبة بكتلة السواد التي ستملأ حياتها.
مدت يدها تتحسس الحائط البارد قبالتها, عيناها لا تزالان مفتوحتين تحدقان في ضوء القمر, تشرد ثانية و هي تحتسي الحب المصلوب من كؤوس الذاكرة التي لا تهدأ. فكرت أنها الآن لم تعد تنتظر نور كل يوم جديد لتمتلئ بحضوره الطاغي, و لا قمر كل ليلة لتموت بين ذراعيه, لم تعد ترتعش حين يمر اسمه على شفاه الآخرين , لم تعد تفقد توازنها كلما داعبت أنفها رائحة السجائر, لم تعد عيناه تعنيان لها ذاك الهيكل الصامد الذي تجثو في محرابه وترفع الى الله صلاتها لأجله, لم تعد تلك الذكريات المفعمة بالحب و التحدي و النضال تلفحها بالحنين بالقدر الذي صارت تدفعها للحسرة و الأسى. كيف تحبس المشاعر؟ كيف تثورالذكرى ؟ كيف يصرخ الصمت ؟ كيف تضحك العيون الدامعة بعد طول بكاء ؟ كيف يهب القمر نوره رغم موت يوم آخر؟….
تمر أمامها الذكريات كشريط سينمائي بارد في ليلة ممطرة, تذكر ذاك الحب العنيف الذي جعلها تصر على الزواج به رغم معارضة أهلها, صممت رغم ظروفه المادية القاسية, و تزوجته. تجرعت كأس الغربة خارج الوطن لتضع الدرهم فوق الدرهم , حرمت نفسها من ضروريات الحياة التي تشتهيها كل امرأة الى أن تحسنت أوضاعه وصار كما هو الآن من الأثرياء. وجاء الاستقرار و لكن لم يأتي الولد.. في البداية لم يكن الأمر يشغلها كثيرا و لكن بعد مرور خمس سنوات,بدأت تشعر بحاجتها الى طفل تشبع به روح الأمومة, وبدأ هذا الاحساس يتحول الى احساس بالاثم في حق زوجها , حاولت التظاهر باللامبالاة لكنه أنكر عليها ذلك خاصة وأن ظروفهما المالية تحسنت. بعثرت آلاف الدراهم بين أيدي الأطباء والدجالين
والمشعوذين……. و عجزوا. احساسها بالهزيمة كان يجعلها تشعر بالانسحاق و بتقهقر انسانيتها أمامه و الحاجة في الوقت نفسه الى أن يغمرها بالمزيد من حبه و يؤكد لها أنه ليس في حاجة الى الطفل. و على هذا الحال مرت سنوات عمرها, و زاد مع كل سنة قلق نظرات أهله و هم يسألون عن الذرية في كل زيارة لهما للوطن.
تنهدت عميقا , و نهضت لتطفئ المصباح, مالت لتتطلع الى وجهها في المرآة المواجهة , لا تزال في الوجه ملاحة والشعر البني الناعم لا يزال على عناده ثائرا متحديا لم يخضع بعد لسطوة المشيب, أرسلت أصابعها تتخلله و تنشره للخلف. أرهفت السمع قليلا حيث انبعث من مبنى مجاور صوت زاحف حط في أعماقها و كأنه طائر يجاور الشمس , يستوطن السحب يحمل قلبا جريحا و بلسما… هكذا تشعر كلما عبر اليها صمت أم كلثوم. تلتقط أذناها مقطعا رائعا: ( قل للزمن ارجع يا زمن)…..
همست بمرارة : ” أم كلثوم ….أشكرك, ماذا لو رجع الزمن , آه لو رجع …. ما كنت لأهتم به, ما كنت لأجعله محور حياتي , كنت سأجعله نكرة مجردة من كل وسائل التعريف , كنت سأدوس على قلبي بحذائي كلما وجدته ينبض, يخفق أو يرتعش , آه لو رجع الزمن الى الخلف, ما كنت أحببته أو تزوجته, أو صدقت عينيه “. تسرق آخر نظرة للمرآة , تضغط على الزر الكهربائي لتغرق في الظلام , تعود بخطى متعبة , تتهاوى بجسدها الممشوق على الكرسي المواجه للقمر, وللذاكرة التي لا تفتر.
حين سافر الى الوطن بدعوى وصول برقية تطلب حضوره لخطورة الحالة الصحية لوالده , تركها بديار المهجر بعد أن فشلت في إقناعه بمرافقتها له, و بعد شهر فقط وصلها نبأ زواجه , لم تصدق أن يتنكر لحبها و تضحيتها وصبرها لكن حدث ذلك فعلا , و اعترف لها أن من حقه أن يكون له ابنا, خاصة وأن كل التحاليل تؤكد صحته وسلامته. ثم تمادى في قسوته حين وضع برنامج حياته معها: يوم عندها وآخر عند زوجته الجديدة, هذا هو العدل,لم يرتكب إثما , فالشرع حلل له الزواج من أربع و اشترط العدل. و العدل أن يبقى عند كل زوجة ليلة, كان هذا منطقه .
اجتاحها قلق نفسي مدمر حين أكمل حلقة العذاب عندما جاء يخبرها أنه انتوى أن يأتي بزوجته الأخرى لتسكن معها لأنه لا يستطيع أن يفارقهما معا و تعب من التشتت بين المنزلين. كلماته سافرت في قلبها غرابا ينعق في وجه آخر حكاياتها الجميلة, حاولت النهوض من أنقاض دهشتها و ركام فجيعتها, رقدت ثورة الكون في حنجرتها وهي تستعيد حبها المحاذي لقهرها. فبالرغم من أن امرأة ما تقاسمها دقات قلبه و تضاريس جسده فلا يهم, طالما أن بينهما مسافة… لكن أن تقبع في بيتها , وفي غرفة من الغرف التي أثثتها بعرقها وصبرها فهذا أكثر من أن تستوعبه كأنثى و كعاشقة. تهاوت سيطرتها على حنجرتها وتعجبت لرنة صوتها تردد في سكون الغرفة كلمة تزلزل صدرها: ” طلقني” .
…. و انسحبت من حياته و هي تبلل بالصمت وجه الهزيمة بتوقيت جرح يتعرى لمدن الإسفلت و دروب الرمال .
فتحت درجا بجوارها , ابتلعت قرصا بلا رشفة ماء , التصقت المرارة على جدار الحلق. في الصمت سمعت دبيب الخطوات , أرهفت حواسها: هذه الخطوات تعرفها, يخفق قلبها خفقات تهز كل جوانحها, يتدفق دمها بحيوية مكثفة تنبض شرايينها بفوضوية , يزحف دبيب النمل إلى رأسها و أطرافها الباردة, تتمتم في سرها : ” هو” .
تحس بأنفاسه خلف الباب بل و تشم رائحة تبغه, تهب واقفة, تحكم معطفها الطويل حول جسدها النحيل, بيدها سوت شعرها بسرعة, و أضاء ت المصباح الكهربائي.
طرقاته على الباب هادئة كما عهدتها في سنوات زواجها الأولى, أدارت المزلاج بتثاقل : كان هو بعينيه السوداوين , بشعره الكثيف , بسيجارته العالقة بين شفتيه بسخرية , ركضت الأرض مذعورة تحت قدميها, ازدادت نبضات قلبها إلى درجة الإحساس بالألم , تركت الباب مفتوحا و عادت إلى حيث كانت, اقترب منها , كانت عيناه لا تزالان بذاك البريق الذي لم يكتشفه سواها, بصوته العميق الذي يضرب في أعماقها أوتارا مهملة , سألها عن أحوالها, تمتمت بكلمات روتينية مدروسة وهي تفكر كيف أطل وجهه هده الليلة كما القمر ليحرك الجنون في روح كانت تتوهم أنها ميتة
كيف راهنت على أنها ستعامل هدا الرجل و كأنه نفاية تنتظر أن يلتقطها عامل النفايات ؟ كيف راهنت على الحنين لن يقرع رقعة الضياع المتسعة بداخلها و لن يطرق مدنها المغلقة ليوقظ رمادها الخامد ؟
هاهو ذا الزمن قد رجع به , هددت , توعدت و عندما طرق بابها كل شيء اختل
القلق ينخر قلبها , يداها مشدودتان على ثوبها , وهي تنتظر ما سيحدث .
مد يده إلى جيب سترته , و أخرج ظرفا كبيرا , ببطء شديد ومن غير أن يرفع نظره إليها
” وثائقك الخاصة , و دفتر الشيكات و صور زفا..زفافنا..نسيت كل هدا بدرج المكتب ”
أحست بالنبض يقفز إلى أدنيها , كادت تتهاوى تحت تأثير غثيان مزعج , أشاحت بوجهها عنه , حتى الذكريات يجرد نفسه منها كيف تتوسل إلى برودة هدا الرجل الذي وهبته سر نفسها على أريكة عمرها الفاخر بالخيبات ؟ اللامبالاة بهذا التوقيت-تشبه الأحلام الطاعنة في المشيب , و مع دلك قررت أن تكون ملكة في انهيارها , لم تمسك بيديه لتنوح كأية طفلة لم تصرخ لتطالبه بثمن كفن , أ خدت الظرف و همست بلسان الستعارته مند زمن بعيد جدا لم يكن قطعا زمنها : ” شكرا… ”
خرج بنفس الهدوء الذي دخل به , ارتمت على أقرب كرسي , لحظتها فقط وهم عمرها الراكض في شوارع مفروشة بالثلج , عمرها الذي تحايلت عليه فبدا الأمس بملامح الغد بعيدا يلوي عنقه و يذوب نحيبا في حواسها
انفجرت دموع عينيها و هي تشيع الرجل الذي وهبته تنهدات قلبها و انكسارات عمرها إلى خارج ذاتها
استقبلت لسعة برد آخر الليل , تطايرت الستائر في وجهها , وقفت لتغلق النافدة , واجهها ضوء القمر كهالة شاحبة كادت تسمعه وهو يردد :
” أنفي الوقور لا يبالي بالسفوح حيث تعمى الأنوف كما الأبصار ”
شقت ابتسامة رقيقة من خلف دموعها وتمتمت : ” سيضل أنفي وقورا… وقورا سيظل ”
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
قمر آيل للسقوط
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات نبراس :: قصة-
انتقل الى: