بين جورج طرابيشى ومحمد عابد الجابريالعقل العربي.. دحض وإثباتالطيب الحميديمن أبرز المشاريع الفلسفية التى ظهرت فى العقود الأخيرة مشروع "محمد عابد الجابري" والمعروف بـ"نقد العقل العربي"، وهو فى حلقات أربع: "تكوين العقل العربي"، "بنية العقل العربي"، "نقد العقل السياسى العربي"، "نقد العقل الأخلاقى العربي" وهذا العمل- فى تقديرنا- من أفضل ما أنتج العقل الفلسفى العربى طيلة القرن العشرين وبداية هذه الألفية الثالثة.
ورغم أن مشروع "الجابري" قد تعرض فى مناسبات عديدة إلى أضرب من النقد متنوعة سواء من خلال ندوات فكرية أو مقالات نشرتها مجلات متخصصة أو كتب معدة لهذا الشأن، فإن أوسع نقد متخصص "لدحض" مشروع الجابرى هو ما أنجزه المفكر اللبنانى "جورج طرابيشي".
هذا العمل النقدى الذى أنجزه "طرابيشي" يتألف من حلقات أهمها "نظرية العقل"، "إشكاليات العقل العربي"، "وحدة العقل العربي".
هذا، والقراءة المتمهلة المتبصرة لكلا المشروعين يمكن لها أن تنتهى بنا إلى الملاحظات التالية:
أولا: إن المشروعين كليهما يكادان يذكراننا بتلكم الخصومة الفلسفية التى جدت فى المائة السادسة للهجرة بين الفيلسوف المشرقى أبى حامد الغزالى "450 هـ - 505 هـ" والفيلسوف الأندلسى أبى الوليد ابن رشد "520 هـ- 595 هـ" فقد كتب الأول "تهافت الفلاسفة" ورد الثانى بكتاب عنوانه: "تهافت التهافت". غير أن الفرق بين المعركتين الفكريتين يكمن أنه فى ذلك العصر البعيد كان البادئ مشرقيا والراد "مغربيا" فى حين هذه المعركة الفلسفية كان طرفها الأول "مغربيا" أما صاحب الرد والاعتراض فمشرقي. هذا، وأنا لا أعنى قطعا بالاختلاف بين محتوى الخصومتين، وإنما أعنى الجانب الشكلاني.
ثانيا: الناظر الحصيف فى طوايا مشروع "الجابري" لا يملك نفسه إلا أن يعجب بسمتين اثنتين لدى صاحب هذا العمل: الأولى هذا الإطلاع البصير على الأجزاء الرئيسية وحتى الجزئية لمكونات الثقافة العربية من فلسفة وأصول وكلام وتصوف وبلاغة وعلوم لغوية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، إطلاع عميق على المناهج الحديثة والمعاصرة سواء فى مجال الفلسفة أو فى مجال علوم الإنسان.
ثالثا: رغم أن "طرابيشي" قد اشتهر فى مجال الترجمة المتعلقة بالأعمال المعاصرة "فرويد، ماركوز" فقد أبدى فى مشروعه "الدحضي" إطلاعا لا بأس به على ثنايا الثقافة العربية التليدة.
رابعا: من بين القضايا التى يعترض فيها "طرابيشي" على الجابرى قضية "القطيعة الإبستمولوجية" بين العقل "المشرقي" والعقل "المغربي"، وقضية أن يكون تفكير ابن سينا "إشراقيا هرمسيا وهو شيء يثبته "الجابري" وينفيه "طرابيشي" وحشر الثقافة العربية برمتها فى ثلاث دوائر: بيان، عرفان، برهان، وهو موقف يؤكد عليه "الجابري" ويعترض عليه "طرابيشي". إضافة إلى ذلك، يعترض المفكر اللبنانى على صاحب مشروع "النقد" فى استعماله لبعض الأدوات المنهجية الغربية والمفاهيم "مثل "النظام المعرفي" المأخوذ عن "فوكو" واللاشعور المعرفي- المأخوذ عن "بياجي" واللاشعور السياسى المنقول عن "ريجيس دبراي"". بل إن "طرابيشي" ليعتبر أن "الجابري" لم يحسن إنزال هذه المفاهيم فى بيئتها الأصلية. ومع ذلك فيحق لنا أن نتساءل: أليس من المشروع أن نوسّع مجال مفهوم من المفاهيم المنقولة.
خامسا: بالرغم من التزام "طرابيشي" الموضوعية والإتزان أحيانا، فهو فى بعض الأحايين ينحدر إلى مستوى يكاد يذكرنا بـ"المعارك الأدبية" التى شغلت العقول فى الثلث الأول من القرن العشرين- مثلا خصومة "الرافعي" مع "العقاد"!! فى حين كان من الأفضل الترفع عن تهم "التجهيل" و"التلاعب" خاصة فى حق مفكر فى قامة "الجابري".
وبعد، فنحن نعتبر أنه برغم كل شيء فإن قراءة المشروعين كليهما بأناة وروية وتبصّر تعتبر متعة عقلية لا محيص للمثقف العربى عنها.
...............................................................
http://www.alarab.co.uk/index.asp?fname=\2008\03\03-17\443.htm&dismode=x&ts=17/03/2008%2009:50:09%20ص