منتديات نبراس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات نبراس

منتدى يهتم بعالم الابداع و التربية والتعليم والثقافة و الحوار
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ذكرى ـ قصة ـ

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
صخر المهيف
مشرف
صخر المهيف


المساهمات : 8
تاريخ التسجيل : 22/02/2008

ذكرى  ـ قصة ـ Empty
مُساهمةموضوع: ذكرى ـ قصة ـ   ذكرى  ـ قصة ـ I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2008 11:14 am

ذكرى



في الشارع الطويل الذي تعود الجلوس بأحد أركانه بعيدا عن أعين الفضوليين، رشف فنجان الشاي متهالكا...كان مرتبكا على غير عادته...مضى في طريقه مسرعا لا يلوي على شيء، لم يعرف سرا لهذاالانقباض الذي كبس أنفاسه فجأة صعد درج العمارة، وما إن هم بولوج شقته حتى سمع صوتا عميقا يطرق باب وجدانه...تناهى إليه في جلبة...كان الصوت دفينا في أعماقه السحيقة، استدار ناحيته، داخلته قشعريرة لم يعرف مصدرها ... تسارعت أنفاسه بسرعة، شعر بقلبه يتحرك من مكانه، أحس به ينقبض ثم ينبسط ، داخت به الذكريات البعيدة حين كان لسانه عاجزا...فقط...تأمل شعاع الشمس القادم من الأفق الغربي وهو يتسلل من زجاج النافذة، سرى دفء وحرك أوصاله الجامدة...شخصت أمامه، همست برقة:

- ألا تسمح لي بالدخول؟

عقدت المفاجأة لسانه، اصطنع ابتسامة خفيفة وصاح مندهشا:

- هذه أنت ؟

- هل أزعجك حضوري إلى هذا الحد؟

- كلا، تفضلي...تفضلي ...

طلعت أنوار في مساء مشمس، خلعت معطفها الأسود ثم استلقت على أريكة جلدية في لون المعطف الأنيق، حسبت نفسها تتأمل أفقا مسدودا، مال نحوها في ذهول ثم وجه إليها نظرات مستفهمة:

- ماذا تشربين؟

- أنسيت؟ شايا أخضر كالعادة.

انصرف إلى المطبخ، صدحت موسيقى حزينة...نغمات الأنتيغونا تسابقت في الفضاء الضيق، شعر بظلها يحاصر بصره...رشفا كوبين في صمت كأن النغمات هاته ذكرتهما بلحظات غائبة تعود إلى ماض جميل حسباه سحيقا...كالموت، أرادت أن تسيج الصمت بكلمات لم تبرح طرف لسانه...تطابقت الشفتان دون أن تقولا شيئا...تجشمت كل العناء قبل أن تهمس له:

- أظنك مندهشا...

- طبعا.

- الحياة تصنع مصائرنا.

- لم أعد أذكر شيئا...

قابلها بابتسامة لا لون لها...حاول أن يبدو غير مكترث بوجودها، عادت تبدد النغمات المنطلقة وتقول:

- لم تسألني عن الكيفية التي حصلت بها على عنوانك...

- لا يهمني ...

- شقيقتك.

- لم ألتق بها منذ خمس سنوات.

- ولكن...

- لم أعد أرغب في رؤية أحد .

ندت عن ثغرها ابتسامة فاترة لكنها غامضة، هكذا بعد عشر سنوات يلتقيان من جديد، بسرعة مضت الأيام والأعوام، في تلك اللحظات، مر شريط الذكريات برأسه متداخلا...ذكريات الحب والألم والزنزانة والمعتقل وسوط الجلاد والمحكمة والقضية وأنين الرفاق، جميعها لازالت طرية بما فيه الكفاية ليستعرضها بكل تفاصيلها المملة...ذه ذكريات طرقت بابه الآن دونما استئذان ودون أن تترك له الفرصة كي يسترجع أنفاسه، ربما وجد الوقت الكافي حتى يفك الخيوط المتشابكة، قطعت حبل الصمت وهي تحضن فنجان الشاي الأخضر بين أناملها:

لقد كان زواجي لحظة هروب...فاطمئن.



- على ماذا؟

- لقد انضممت إلى جيش المطلقات بطفلة جميلة جئت بها إلى هنا بعدما قررت أن أعمل .

- لكنك في غنى عن العمل.

- هذه مشيئة الأقدار.

ذه حياته مضطربة كما لم تكن من قبل، تداعت الأحلام في مثل صرخة الموت، تهاوت المطامع في خضم الحياة المتقلبة...نظرت إلى عينيه مستكشفة، كانت تهرب بنظراتها بعيدا عن عينيه، رمقته يرفعهما إلى السقف من حين لآخر، عرف أخيرا أنها الحيرة استبدت به، ربما لأن الأسئلة انطلقت كبيرة بحجم هذا اللقاء الذي لم يتصور من قبل أنه سيكون بهذا الشكل الغريب بل لم يكن يتصور مجرد التصور حدوثه في مسكنه بالتحديد، لأنها أسئلة ظلت شاردة بشرود اللاعب في ميدان الكرة حين توقعه لياقته البدنية الضعيفة في فخ الشرود، عاد يحدثها درءا لمخاطر الصمت:

- وماذا عن العمل؟

- رائع، المركز يناسبني كما أن الأجر مغر.

- أراك واثقة من نفسك.

- كثيرا ما كنت أضعف أمامك.

- حقا؟

رشفت فنجان الشاي الأخضر بعنف ثم وضعته فوق المنضدة الزجاجية بعصبية فيما اتجه هو نحو النافذة المغلقة، الشموع بات ضوؤها يتراقص حوله،تقدم نحوها، أطفأها الواحدة تلو الأخرى، لا زال النغم الحزين يلاحق سمعه،فتح النافذة...عانقته ريح خفيفة لفحت وجهه الشاحب، أحس بغصة في حلقه، لماذا يا ترى تحاصره الذكريات بكل ماهو جميل وبكل ما هو قبيح أيضا؟ الشفق الأحمر مشتعل في الأفق بعدما ابتعدت الشمس خلف خيوط الليل، أصر في هذه اللحظات على المضي في طريقه دون أي منغص...

هاهي الذكريات تشمخ أمامه بكل تفاصيلها المتزاحمة في عقله...يبدو في المرآة كمن يرفض العيش في قفص من ثلج...الأنوار في آخر المطاف أرسلت خيوطا من الأمل قد تعكس إرادة واهية على إتمام لعبة مكشوفة منذ البداية، أما هي فأطبقت برأسها على ترنو إلى الأرض، سال دمع ساخن على خدها المتورد... الذكرى حرقتها مثل قطعة قماش بالية ألقيت في مجمر، صب من زجاجة الكونياك في كأسه وتجرعه دفعة واحدة، تلك عادة تحكمت فيه منذ غادر أسوار الجحيم...جال بعينيه طويلا بين الأرجاء، شوق دفين تحرك في نفسه، هز كيانه...في لحظات قليلة، اختلطت عليه السبل، لا يعرف الآن هل يتقدم أم يتراجع؟ تأمل السقف مرة أخرى، صدر الليل لازال مشتعلا بالأسئلة الكبرى، صدرت عنه زفرات عميقة، لم يقل شيئا، هي أحست بأنه لا يريد أن يتكلم أوحتى أن ينظر إليها بمقلتيه الحائرتين ...همست في تردد:

- لم أكن أعرف أنك كنت مسجونا .

- لا يهمني إن كنت صادقة أم لا...

- قالوا لي إنك سافرت إلى أوربا، فيماذا كان سيفيدني الانتظار إذن ؟

- لقد كنت مخطوفا.

- لم أكن أعرف.

- أخذني مجهولون معصوب العينين في كيس قمح.

صمت برهة ثم استطرد قائلا:

- كانوا يسألونني والسياط تهوي على ظهري عن رفاقي وعن الحزب وعن الكتب التي كنت أقرأها .

كان ينفث دخان سيجارته بعنف، لما غادر السجنذات مساء ، أحس بأنه ولد مرة أخرى ، لم يستطع أن يرنو إلى إلى الشمس المشرقة ولم يستطع جسده أن يتحمل الأشعة الصفراء القادمة من كبد السماء...

احتضن الفناء الطيف الآتي من الأعماق، لا زالت رائحة جدران السجن طرية تسيح في الذاكرة الخائفة،

طاف بعينيه بين الحاضرين، لم يكترث بوجود القاضي...انتبه إلى أنها لم تكن هناك في صف من الصفوف، ألحت عليه الأسئلة مرة أخرى، أصحاب البذلة السوداء ملأت أصواتهم القاعة وقد جاؤوا يؤيدون المعتقلين في محنتهم ، لم يخرج من حيرته إلا بعدما سأله القاضي:

- ما طبيعة علاقتك بالمنظمة السرية؟

- لا أعرف عم تتحدثون سيدي القاضي.

وقف النائب العام صائحا:

- هؤلاء سيدي القاضي، حضرات المستشارين، يثيرون الفوضى باسم أفكار يرفضها جميع الناس وتخالف أحكام ديننا الحنيف.

صرخ أحد المعتقلين قائلا:

- أنتم تحاكمون أفكارنا إذن.

كان يشد القضبان العمودية بقوة مصرا على تحطيم قيده، ومع ذلك ظل يرقب إطلالتها في كل لحظة، خفق قلبه بشدة بمرور الوقت، لكنها في النهاية لم تحضر، آه، بعد عشر سنوات ما بال الجوارح انتفضت هكذا لما استنفذت السيجارة نفسها؟ التفت إليها قائلا:

- لقد بدأت صفحة جديدة.

- أهي امرأة أخرى؟

- أجل.

- لا شك أنها جميلة.

أحس بالشوق يهرب منه، كانت تلك اللحظات مجرد صفر على اليمين، طفق يتأملها دون أن تيرح الابتسامة الغامضة الخفيفة محياه ...لاشيء بدون ثمن في وجود ممكن ومفتوح على كل الاحتمالات، كل شيء استهلك نفسه في هذا الوجود بما في ذلك الشعور بالحب...تلك طاقة تنفد بمجرد الانتقال من النور إلى العتمة أو هكذا بدت له الأمور، حركة تحول دائمة من جنة الطهر إلى جحيم الدنس...

- لقد جئت للاطمئنان عليك.

- بعدما تخلى عني الجميع.

- ليس صحيحا...لم أكن أعرف.

- لم تكن محاكمتي سرية، فالصحافة الأجنبية نفسها كانت على علم بكل شيء.

دلفت نحو الباب الموصد... كان يمشي خلفها متعجلا...وضعت أول رجل في الخارج ثم توقفت برهة كأنها تستعد لأن تتلقى منه جوابا شافيا عن سؤال لم تطرحه عليه أصلا، عيناها استدارتا وهما تفتشان عن مفقود عزيز أوكبرياء مجروح في ظل سكينة زائفة، تناغم وقع أقدامها فوق أدراج العمارة، أدار المفتاح، ارتعشت يداه، ثم انطفأت الأنوار...كل الأنوار.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
منال الخالدي

منال الخالدي


المساهمات : 68
تاريخ التسجيل : 17/02/2008

ذكرى  ـ قصة ـ Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذكرى ـ قصة ـ   ذكرى  ـ قصة ـ I_icon_minitimeالسبت مارس 22, 2008 12:56 pm

و انها فعلا لذكرى، باسلوب راقي و خلاب
تحياتي لقلمك الجميل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ذكرى ـ قصة ـ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات نبراس :: قصة-
انتقل الى: