3.العلامة والرمز اللسانيانإن الإنسان يتجاوز كينونته البيولوجية باعتباره حيوانا رامزا، فيعتبر النسق الرمزي طريقة جديدة يبدعها الإنسان للتلاؤم مع الوسط الخارجي، وكما يرى كاسيرر Kassirer : فبقدر ما يتقدم النشاط الرمزي لدى الإنسان، بقدر ما يتراجع الواقع المادي إلى الوراء.
إلا أن هيغل Hegel يرى أن هناك فرقا جوهريا بين الرمز والعلامة ؛ فالعلامة اعتباطية، في حين أن الرمز يشتمل على التمثيل الذي يعبر عنه. فالأسد – مثلا – يستخدم رمزا للقوة، والثعلب رمزا للمكر ..الخ ؛ هكذا يبدو أن الرمز ليس كليا اعتباطيا. لكن لا يجب أن يفهم من ذلك أن الرمز يطابق تمام المطابقة المدلول عليه، لأنه يحمل خصوصيات غير موجودة في المدلول عليه.
أما دي سوسير De Saussure فيرى أن العلامة اللسانية تتألف من الدال le signifiant (الصورة الصوتية) والمدلولle signifié (الفكرة، أو التمثل الذهني)، والعلاقة بينهما علاقة اعتباطية مما يؤكد أن العلامة اللسانية مبنية على أساس المواضعة والاتفاق.. فكلمة "أخت" لا تحمل في ذاتها، ولا في متوالية الأصوات المكونة لها (أ،خ،ت،ن) أية علاقة بالتمثل الذهني الذي تدل عليه. فتعدد العلامات اللسنية في تسمية الشيء الواحد بأسماء متعددة دليل على اعتباطيتها. إن العلامات والرموز – إذن – هي البدائل التي بواسطتها يتحرر الفكر البشري من السلطة والحضور الماديين للأشياء. ذلك ما يؤكد الاختلاف الجوهري بين هيغل ودي سوسير. فالرمز يتضمن في نظر اللسانيين (دي سوسير نموذجا) فكرتين : إحداهما فكرة الشيء الممثل (بكسر الثاء) le représentant ، والأخرى هي فكرة الشيء الممثل (بفتح الثاء) le représenté ؛ وذلك نفسه ينطبق على مفهومي الدال والمدلول. فبواسطة العلامة والرمزـ إذن ـ يتم تمثيل الموضوعات المادية والمعاني التي يريد الفكر استحضارها إلى حيز الشعور.
من خلال هذا نستنتج، أن اللغة نشاط رمزي، يستطيع الإنسان،بواسطته، أن يتمثل الواقع دونما حاجة إلى التقيد به واستحضاره في صورته وشكله الماديين. وهذا ما يتيح لنا أن نتساءل حول طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر، وبالتالي: هل توجد بين اللغة والفكر علاقة تبعية وتلازم؟ أم هل بينهما علاقة انفصال؟
4.اللغة، الفكر، التواصل تتقاسم أطروحتان إشكالية العلاقة بين اللغة والفكر : الواحدة منهما تقول بانفصال اللغة والفكر، وأخرى تؤكد – على العكس – فكرة الاتصال بينهما. فإذا تأملنا موقف برغسون Bergson ، نجده لا ينكر توفر اللغة كوسيلة تخرج الإنسان من الجهل إلى المعرفة، إلا أنه يعتبرها أداة غير كافية نظرا لطابعها المحدود مقارنة مع الموضوعات اللانهائية. فعلى العقل أن يتدخل باستمرار ليضفي على الكلمات دلائل جديدة من خلال عملية إلحاقها بأشياء لم تكن ضمن اهتماماته قبلا. وبهذه الطريقة ينقل العقل الأشياء من المجهول إلى المعلوم. ومن ثمة، يرى برغسون أن العقل يستعمل باستمرار الطريقة التي ألفها في تعامله مع المادة الجامدة.
إنه لا يمكن فهم الموقف البرغسوني في طرحه لعلاقة اللغة بالفكر إلا من خلال التمييز بين ثابتين: عمل العقل وعمل الحدس. فالعقل - في نظر برغسون – يتعامل – مثلا – مع الكائن الحي على أنه ليس كذلك، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يملكها العقل للتأثير على الأشياء. غير أن هذه الطريقة برغمائية وميكانيكية، تلجأ إلى قتل الحي وتثبيت المتحرك، والقضاء على الاتصال. أما الحقيقة فهي متجلية – حسب برغسون – في عمل الحدس الذي يدرك "الديمومة". وإذا اعتبرنا اللغة من إبداع العقل فإنها تصبح وسيلة، وأداة خطيرة، يستطيع العقل أن يحقق من خلالها عمله النفعي والميكانيكي. ومن ثمة تكون اللغة عاجزة عن التعبير عن "الديمومة"، وبالتالي عاجزة عن التعبير عن الفكر الحدسي المدرك لتلك "الديمومة".
هكذا يتأكد أن الموقف البرغسوني يتلخص في ترجيح كفة انفصال اللغة عن الفكر وعجزها عن التعبير عنه. وتلتقي مع أطروحة برغسون عدة أطروحات أخرى من أبرزها الأطروحة الصوفية. فما قد يفهمه الجمهور من كفر وزندقة وشرك من شطحات المتصوفة ( كقول الحلاج مثلا: "ما في الجبة إلا الله" أو قول البسطامي: "سبحاني ما أعظم شأني") لا يؤكد ذلك في العمق إلا أن التجربة الصوفية تجربة روحية باطنية ووجدانية فردية، تعجز اللغة عن ترجمتها والتعبير عنها بإخلاص.
وفي مقابل ذلك، يؤكد ميرلوبونتي Merleau-Ponty أن هناك ارتباطا دياليكتيكيا بين اللغة والفكر، ولا يمكن اعتبارهما، في أي حال من الأحوال، موضوعين منفصلين. إن التفكير الصامت الذي يوحي لنا بوجود حياة باطنية هو – في الحقيقة- مونولوج داخلي يتم بين الذات ونفسها، لأن اللغة والفكر يشكلان وجودا علائقيا مرتبطا ومتزامنا. كما ترى الطروحات اللسانية المعاصرة، خاصة منها أطروحة كريستيفا أن بين اللغة والفكر علاقة تلازم وتبعية، حيث ترى جوليا كرستيفا J. Kristeva أن اللغة منظورا إليها من خارج تكتسي طابعا ماديا متنوعا: فيمكنها أن تتمظهر في صورة سلسلة من الأصوات المنطوقة، أو في صورة شبكة من العلامات المكتوبة، أو على شكل لعبة من الإيماءات، وهذه الحقيقة المادية تجسم ما نسميه فكرا، أي أن اللغة هي الطريقة الوحيد التي يمكن أن يوجد بها الفكر، بل هي حقيقة وجوده وخروجه إلى الوجود، أو كما تقول كريستيفا : "إن اللغة هي جسم الفكر".
إن التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو: أي الأطروحات يجب الإقرار بها؟ إذا قارنا بين الأطروحات التي بحثت في طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر، يلاحظ أن الأطروحات التي تؤكد وجود علاقة الإنفصال بينهما تتمثل في الطروحات الفلسفية المثالية. في حين أن القول بوجود علاقة التلازم بين اللغة والفكر تتبناها وتدعمها الأطروحات العلمية. فقد بينت – مثلا – الأبحاث العلمية التي أجريت على ظاهرة الأفازيا L'Aphasie أن المرض اللغوي هو في الحقيقة مرض عقلي. كما أكدت الطروحات اللسانية من خلال جوليا كريستيفا أنه لا يمكن الحديث في علاقة اللغة والفكر عن وجودين منفصلين، بل عن وجود واحد، وفي نفس السياق شبه دي سوسير De Saussure العلاقة بين اللغة والفكر بوجه الورقة وظهرها، حيث قال : "إن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالمثل لا يمكن في مضمار اللغة، فصل الصوت عن الفكر أو فصل الفكر عن الصوت..".
إن إشكالية العلاقة بين الفكر واللغة، تحمل في طياتها إشكاليات أخرى عديدة ومعقدة ومتداخلة. ومن أبرز هذه الإشكاليات، إشكالية الوظائف التواصلية للغة باعتبارها تواضعا اجتماعيا وتأليفا بين عناصر متعددة. فكيف يتحدد التواصل بواسطة النسق اللغوي؟ هل يتحقق التواصل في إطار من الشفافية والوضوح التامين ؟ أم أن عملية التواصل تدخل عوامل تقصي الشفافية؟
إن النظرية التواصلية تعتبر اللغة أداة تواصل وتبليغ، وعملية التواصل تتم في إطار من الوضوح والشفافية بين الذوات المتكلمة، أو بتعبير آخر، إن عملية التواصل هي تبليغ وتلاق بين ذوات متكلمة وأخرى متلقية، تتم في إطار من الوضوح والشفافية وفي شروط ذاتية وموضوعية. وقد حدد جاكوبسون Jakobson عوامل التواصل فيما يلي : المرسل وهو الطرف المبلغ للرسالة سواء كان فردا أو جماعة أو هيئة أو مؤسسة ...إلخ، المتلقي (المرسل إليه) وهو الطرف المستقبل للرسالة، الرسالة وهي الخطاب الذي يوجهه المرسل إلى المتلقي، المرجع (أو السياق) وهو الموضوع الذي تتمحور حوله الرسالة، روابط الاتصال والمقصود بها القنوات المادية والنفسية التي تسهل عملية انتقال الرسالة، و أخيرا السنن le code وهو النظام الرمزي (لغة التواصل) المشترك بين المرسل والمتلقي. وإذا توفرت هذه العوامل، فإن اللغة تؤدي الوظائف التواصلية التالية:
1) الوظيفة الانفعالية : وهي ما تسعى رسالة ما تحقيقه من خلال التعبير عن الشعور الانفعالي للمرسل، سواء كان الشعور صادقا أو كاذبا.
2) الوظيفة التأثيرية : وهي الطريقة التي قد يضطر المرسل إلى نهجها من أجل التأثير على المتلقي، وفي هذه الحالة تتخذ الرسالة شكل صيغ النداء والأمر.
3) الوظيفة الإتصالية : وهي الصيغ اللغوية التي قد يلجأ إليها المرسل حتى لا يكون هناك فتور في التواصل، أو تراخ في الحديث.
4) وظيفة وصف اللغة للغة : وهي وظيفة يمكن أن تتجلى في كل دراسة لخطاب من الخطابات أو رسالة من الرسائل، وفي هذه الحالة تتخذ الرسالة صورا تحليلية، أو نقدية، أو صور شروح وتفسيرات ..إلخ.
5) الوظيفة الشعرية : وهي الصور التي يجب أن تتحقق في الرسالة ذاتها على مستوى جمالية التعبير، والاتساق اللغوي، وضبط للقواعد واحترام لها …
إن سرد الوظائف بهذا الشكل، يبين أن الرسالة الواحدة يمكنها أن تقوم بكل هذه الوظائف، لذا قال جاكبسون، إن تحديد رسالة ما بالوظيفة المهيمنة لا يجب أن يحجب عنا الوظائف المتبقية. غير أن دوكرو Ducrot يرى أن عملية التواصل لا تتم دائما في إطار من الوضوح والشفافية، بل تصبح اللغة وسيلة للإضمار والإخفاء وذلك يرجع لسببين:
(ا) وجود طابو tabou لغوي داخل كل المجتمعات البشرية.
(ب) خوف الذات المتكلمة من المناقشة والاعتراض.
هكذا تصبح اللغة تحت تأثير الطقوس والعادات، وتحت ضغط الطابو le tabou ، وسيلة لتخفي الذات المتكلمة ما تود قوله. إلا أن ذلك لا يعني أن للذات المتكلمة سلطة مطلقة على اللغة، حيث يرى رولان بارت R. Barthes أن اللغة نظام توكيدي إثباتي، وسلوك نمطي قطيعي، حيث تصبح اللغة تشريعا إلزاميا. ومعنى ذلك أن الفرد حينما يتكلم، فإنه يفعل ذلك في حدود ما تسمح به اللغة. ومن ثمة لا تظهر قدرة الفرد الإبداعية إلا من خلال قدرته على الالتزام بقوانين النسق اللغوي. وبهذا يصبح الإنسان عبدا للغة أكثر مما هو سيد لها.
وكتخريج عام، يمكن القول بأن اللغة خاصية تميز الإنسان، وقد روى ديدرو Diderot كيف أن أحد الرهبان انبهر بذكاء شامبانزي فصاح فيه قائلا : "تكلم ولن أتردد في أن أعمدك". وقد انحصرت اللغة في دائرة الإنسان، ليس باعتباره كائنا بيولوجيا، بل خصوصا لأنه يملك القدرة على التفكير، ولكونه يستطيع، بفضل نشاطه الرمزي، أن يخلق لنفسه عالما رمزيا يبعده عن السلطة المادية للأشياء، ويمكنه من جهة أخرى من التواصل، ونقل خبراته الفردية لكي تصبح خبرات لسانية جماعية. إلا أن اللغة ليست دائما طيعة بين يدي الذات المتكلمة، فاللغة مؤسسة تتميز بوجودها المستقل الذي يجعل الذات المتكلمة تخضع لسلطتها.
...............................................
www.lycee-maroc.ma ثانوية المغرب الإلكترونية