3. أنواع الحقيقةلعل الاختلاف حول تحديد مفهوم الحقيقة، والتنوع الحاصل في تمثلها بصورة واحدة، هو ما جعل الشكاك المذهبيين يشكون في إمكانية وجود حقيقة. وما غاب عن هؤلاء هو أن الحقيقة لا تنكشف من ذاتها لأنها خطاب يبنى ويتأسس حول منطلقات تختلف باختلاف الظرفية التاريخية والضرورة العقلية التي تفرضها …
فمنذ أرسطو ظهرت الحقيقة كضرورة لإقناع الخصم وإفحامه ؛ لهذا تأسست على البرهان. ومن ثمة يكون الحكم الذي يقدم نفسه كحكم صادق، يقدم نفسه في ذات الوقت على أنه حكم أقيم عليه البرهان باعتباره نتيجة استقراء [تام]. فالبرهان هو القوة التي تدعم الحقيقة من الداخل . أما الحقيقة التي تحمل برهانها في ذاتها فإنها تسمى بديهية … غير أن ابن رشد يرى أن الحقيقة الدينية واحدة إلا أنها تتمظهر في صور متعددة نظرا لاختلاف طبائع الناس وتباين فطرهم في التصديق : فهناك من يصدق بالقياس الخطابي، وهناك من يصدق بالقياس الجدلي، وأخيرا هناك من يصدق بالبرهان. ولما كانت الحقيقة الدينية استهدفت كافة الناس فإنها استعملت أشكالا ثلاثة من القياس. وهذا لا يفيد تعدد الحقائق، لأن ذلك يعني فقط تعدد أشكال الخطاب التي يمكن أن تعبر عن نفس الحقيقة. وهذا يفترض أن تتمظهر الحقيقة في صورة الخطاب الذي يؤسسها، ومن ثم يدافع كل واحد على خطابه باعتباره الحقيقة المطلقة.
ولعل تفسير ذلك يوجد عند ميشيل فوكو M. Foucault، الذي يرى، أن الحقيقة لا توجد خارج السلطة، بل إنها ذاتها هي السلطة لأنها نتيجة إكراهات متعددة. فالسياسة العامة للحقيقة تفرض أن يحدد المجتمع نوع (أو أنواع) الخطابات التي يعتبرها حقيقة. فالحقيقة في المجتمعات المعاصرة – مثلا – تنحصر في الخطاب العلمي .. ومن هذا المنطلق ينتج المجتمع ويحدد الأشخاص والآليات والهيئات التي تسند إليها مهمة الاهتمام بالحقيقة. وهذا ما يفيد أن الطابع المؤسساتي هو الذي أصبح يطغى اليوم على مفهوم الحقيقة: لأن الحقيقة نابعة من مؤسسات وتروجها وتحميها مؤسسات، تلك المؤسسات التي قسمها ألتوسير Althusser إلى نوعين : المؤسسات الأيديولوجية، والمؤسسات القمعية. إن الطابع المؤسساتي للحقيقة هو الذي يؤدي إلى وجود الصراع حول الحقيقة. مع العلم أن الصراع لا يكون من أجل الحد من سلطوية الحقيقة، وإنما يكون من أجل إبعاد الحقيقة عن أشكال الهيمنة التي يمكن أن تؤسسها خطابات حول الحقيقة.
إلا أن استقراء تاريخ الفكر البشري، يؤكد بأن الحقيقة لم تستطع أن تتواجد في معزل عن اللاحقيقة ؛ ونقصد بذلك أضداد الحقيقة التي يمكن تلخيصها في نوعين أساسين : الخطأ والوهم. فالحقيقة العلمية التي تعتبر النموذج الأعلى لليقين لم تستطع أن تعيش في معزل عن الأخطاء. فقد ظلت فكرة مركزية الأرض – مثلا – مهيمنة على العقول إلى أن تم اكتشاف خطإها. ولا تكتشف مثل هذه الأخطاء داخل العلم إلا حينما تصبح عوائق إبستيمولوجية. لذا قال غاستون باشلار Bachelard : "تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم". فالحقيقة العلمية، تتقدم بتجاوز العوائق الإبستيمولوجية التي تحملها في ذاتها.
أما الوهم فهو أخطر من الخطأ لأنه يصعب اكتشافه بسهولة نظرا لما يحققه من الرغبات الوجدانية والنفعية للإنسان. وقد أكد نيتشه، أن الوهم يتولد عن حاجة الإنسان في أن يوفر لنفسه حياة سلمية وأمينة، لأن أساس الوجود البشري يقوم على الصراع من أجل البقاء (أو كما قال هوبس "حرب الكل ضد الكل"). إلا أن حب البقاء يدفع بالإنسان إلى استخدام العقل من أجل إنتاج الوهم لأن الحقيقة قاتلة. وتعتبر اللغة الأداة الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان في صناعة الوهم لأن من طبيعة استعارية ومجازية. هكذا يكون الوهم لصيقا بالحياة البشرية لأنه يضمن للإنسان الاستمرار والبقاء. وبناء عليه، يرى نيتشه أن ما يعتقده الناس حقائق (المساواة، التعاون ..إلخ) ويقدسونها، ما هي إلا أوهام تم نسيانها.
4. الحقيقة بما هي قيمةإن المقارنة بين الحقيقة واللاحقيقة (=أضداد الحقيقة) تدعو إلى إقامة التفاضل بينهما، وبالتالي سنجد أن الفكر أميل منطقيا إلى القول بأهمية الحقيقة، ولا أحد يجادل في أن كل الفلاسفة يجمعون على أن السعي وراء الحقيقة فضيلة … وهذا ما يؤكد أن للحقيقة قيمة تجعل الناس يرومونها. ففيم تكمن ـ إذن ـ قيمة الحقيقة؟
إذا استقصينا تاريخ الفلسفة يتأكد أنه أعطيت للحقيقة قيم متعددة تتأرجح بين قيم فكرية ونظرية، وقيم نفعية وعملية، وقيم أكسيولوجية أخلاقية. وقد تميزت الفلسفة التقليدية في اعتبار الحقيقة غاية في ذاتها وكان الفيلسوف يطلب الحقيقة لذاتها.
وقد حاولت الفلسفة البرجمائية تجاوز هذا التصور التقليدي للحقيقة بتأكيدها أن قيمة الحقيقة تتجلى في كل ما هو نفعي، عملي، ومفيد في تغيير الفكر والواقع معا. يقول وليام جيمس W. James : "يقوم الصادق بكل بساطة في كل ما هو مفيد لفكرنا، والصائب في ما هو مفيد لسلوكنا".
إن الطرح البرجمائي لقيمة الحقيقة تقف أمامه عدة اعتراضات أهمها اعتراضات فلسفية أخلاقية، وأخرى إبستيمولوجية علمية:
(ا) يلاحظ، فلسفيا، أن الإقرار بالقيمة النفعية للحقيقة معناه فسح المجال لاعتبارات لا أخلاقية كالأنانية، والظلم، والتآمر ..إلخ
(ب) يلاحظ أن تاريخ العلم يقصي المنفعة العملية. فلو كان يضعها قيد الاعتبار لما ظهرت النظريات العلمية المعاصرة. ففي الرياضيات، مثلا، لا تظهر المنفعة العملية المباشرة التي تستفاد من النظرية الهندسية للوباشفسكي Lobatchevski ، لكن لا أحد يستطيع أن يشك في قيمتها العلمية.
كنتيجة لذلك، يلاحظ أن الفلسفة البرجمائية (رغم إيجابيتها)لا تستطيع أن تصمد أمام النقد (شأنها شأن أية فلسفة). فقد تأكد منذ سقراط أن الحقيقة غاية في ذاتها، وهذا ما جعل الفيلسوف الألماني كانط يعتبر الكذب رذيلة ولو كان لحماية صديق من مجرمين يودون قتله. فمن يكذب مرة واحدة لمصلحته أو لمصلحة غيره يعتبر مخلا بالواجب الأخلاقي الذي يمكن أن نعتبره واجبا من أجل الواجب. وهذا ما يؤكد أن الحقيقة غاية في ذاتها لذا لا يمكن أن نتعامل معها كملكية فردية…
أما الفيلسوف برغسون Bergson فإنه يرى أن القيمة الفعلية للحقيقة تتجلى في تجاوز التصور التقليدي لقيمة الحقيقة والذي يحددها في مطابقتها لما كان أو لما هو كائن … فالحقيقة ليست استنساخا لأي شيء، وإنما الحقيقة إعلان لما سوف يكون. فالحقيقة استعداد للمستقبل وتوجه نحوه، وقيمة الحقيقة تكمن في كونها تهيئ لمعرفتنا لاستباق ما سوف يكون.
وكتخريج عام لهذا الدرس، يتضح الاختلاف الحاصل في تحديد مفهوم الحقيقة ومدى مطابقتها للواقع، وبالتالي الاختلاف في حصر القيمة الأخلاقية والنظرية للحقيقة. وذلك فعلا ما يؤكد نسبية الحقيقة. ولكننا لا نقصد بذلك ما ذهب إليه كانط في وجود حدود ميتافزيقية للحقيقة؛ وإنمانطرح المسألة في منظورها عند ميشيل فوكو الذي يؤكد أن الحقيقة نتاج اجتماعي. أي أن المجتمع هو الذي ينتج الخطاب الذي يعتبره حقيقة. وبما أن الفلسفة وليدة عصرها، فإن ذلك ما يفسر تعدد الخطابات الفلسفية حول الحقيقة، وغالبا ما تضطر الفلسفة، من أجل تأسيس مفهوم جديد للحقيقة، أن تدخل في صراع مع السلطة المؤسسية للحقيقة.
.........................................................
www.lycee-maroc.ma ثانوية المغرب الإلكترونية