1. مدخل (من الدلالات إلى الإشكالية)إن الحقيقة مفهوم معياري، والإنسان حينما يفكر أو حينما يتكلم فإنه يروم الحقيقة. غير أن تحديد الدلالة الفلسفية للحقيقة تعتبر إشكالية فلسفية ليس من السهل ضبطها نظرا لتنوع المواقف حولها. هكذا نطرح السؤال التالي : ما هي الحقيقة؟
إن مفهوم الحقيقة في دلالته الشائعة غالبا ما يستند على معيار أساسي هو معيار الواقعية. هكذا يكون الحقيقي هو الوجود القابل للإدراك الحسي المباشر، أو القابل للتحقق الواقعي.
إن هذا التمثل ليس كليا خاطئا، ولا يبتعد كثيرا عن بعض التمثلات الفلسفية (المذهب التجريبي مثلا)، إلا أنه اصطلاح قاصر. فمن الملاحظات التي يمكن أن تسجل عليه، أن الحقيقة ليست دائما واقعية أو مطابقة بشكل مباشر للواقع. فالحقيقة الرياضية – مثلا – برهانية، والإبداعات الفنية والأدبية الخيالية حقيقة، ليس لأنها مستمدة من الواقع ولكن لضرورتها الوجدانية.
إن عدم الدقة الذي يشوب الدلالة الشائعة للحقيقة يستدعي منا أن نطلب مفهوم الحقيقة في دلالتيه اللغوية والفلسفية. فهذا الجرجاي يحدد مفهوم الحقيقة فيما هو ثابت ومستقر ويقيني. هكذا يكون للحقيقة معنى لغوي ومعنى فلسفي أنطولوجي. فالثابت لغة هو المعنى الحقيقي ويقابله المعنى المجازي ؛ والثابت أنطولوجيا هو الجوهر وتقابله الصورة. وذلك ما يزيد إشكالية تحديد مفهوم الحقيقة تعقيدا، الأمر الذي يدفع بنا إلى اللجوء إلى التحديد الفلسفي مباشرة مع الفيلسوف الفرنسي لالاند Lalande. يحدد هذا الفيلسوف المعنى الفلسفي لمفهوم الحقيقة في خمس دلالات هي :
الحقيقة هي خاصية كل ما هو حق.
الحقيقة هي القضية الصادقة.
الحقيقة هي ما تمت البرهنة عليه.
الحقيقة هي شهادة الشاهد الذي يتكلم عما رآه أو ما سمعه …
الحقيقة هي الواقع.
من خلال ما قدمه لالاند يتبين أن مفهوم الحقيقة في دلالته الفلسفية العامة يتأرجح بين عدة مدلولات. وهذا ما يتيح لنا فرصة طرح الإشكالية الفلسفية لهذا الدرس، والتي يمكن التعبير عنها بواسطة التساؤلات التالية : ما هي علاقة الحقيقة بالواقع ؟ ما هي أنواع الحقيقة ؟ فيم تكمن قيمة الحقيقة؟
.الحقيقة و الواقع
قبل استعراض بعض من النماذج الفلسفية التي تعالج هذه الإشكالية، نتوقف عند مفهوم الواقع لشرح دلالته الفلسفية. إن مفهوم الواقع يتحدد فلسفيا في عدة معان : فقد يقصد به كل ما هو تجريبي عيني وقابل للإدراك الحسي المباشر. وقد يفيد وجودا أنطولوجيا معقولا يفرض نفسه على الذهن… هكذا يتأرجح مفهوم الواقع في دلالته الفلسفية بين ما هو عقلي وما هو مادي حسي، ومن ثمة نستطيع القول بأن الواقع فلسفيا يفيد كل معطى موضوعي يوجد خارج الذات، ويتميز باستقلاله عنها.
إن هذا التحديد لمفهوم الواقع سيسهل علينا معالجة العلاقة بين الحقيقة والواقع. ومن أجل بلوغ هذا الهدف فإننا سنقارب هذه الإشكالية من خلال محورين : الحقيقة بما هي واقع، والحقيقة بما هي مطابقة الفكر للواقع.
1.2 الحقيقة بما هي واقع لما كانت الحقيقة عند بعض الفلاسفة مرادفا لما هو ثابت ومستقر ؛ فإننا نصادف عدة طروحات حول الحقيقة بما هي واقع. فهذا أفلاطون يميز أنطولوجيا بين عالمين : عالم المحسوسات، وعالم المثل. أما الأول فهو عالم مادي محسوس متغير، زائف، وناقص. وموجوداته هي بمثابة ظلال وأشباح لموجودات عالم المثل. وهذا الأخير، عالم معقول، ثابت كامل، وفيه توجد النماذج العليا لكل الموجودات. والعلاقة بين العالمين هي علاقة حقيقة بخيال (أو شبح). فالحقيقة يجسدها عالم المثل، ومن هنا تكون المعرفة الحق –في نظر أفلاطون – هي إدراك عالم المثل في صورته المطلقة بواسطة الجدل الصاعد أي ذلك المجهود الفكري الذي ينتقل بنا من الأدنى إلى الأعلى، من الحسي إلى المجرد، ويخلصه من أوهام المعرفة الحسية.
أما أرسطو فيختلف مع أستاذه أفلاطون في الاعتقاد بوجود حقيقة ثابتة مفارقة لهذا العالم. فكل شيء – في نظر أرسطو – في هذا العالم عبارة عن جوهر (ماهية) وصورة. والجوهر هو الحقيقة الثابتة التي على المفكر أن يصل إليها وأن يدركها في شكلها المطلق. لكن ذلك لن يتم إلا من خلال التمثل الحسي للصور. فمعرفة الصورة تساعد على معرفة الجوهر، لأن الحسي هو الطريق إلى المجرد والمعقول، شرط أن نعرف أن الحقيقة لا تتاح كاملة إلا بتجاوز الحسي.
إن هذا الهاجس هو الذي جعل ديكارت لا يعترف بقيمة المعرفة الحسية؛ فجعل من الشك الطريق الأساسي لبلوغ الحقيقة. هكذا شك ديكارت في كل المعارف الموروثة، وفي المعرفة الحسية. واعتبر أن الحقيقة من إنشاء العقل نفسه. فالحقيقة هي ما ينتهي إليه الشك. وعلى هذا الأساس، لا يكون الحقيقي إلا ما هو واضح وبديهي ومتميز. أو بتعبير آخر، إن معايير الحقيقة تتلخص في البداهة والوضوح والتميز. ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم الكوجتو الديكارتي : "أنا أفكر أنا إذن موجود ". فخاصية التفكير هي حقيقة الوجود البشري وإذا توقف الإنسان عن التفكير توقف عن الوجود.
من خلال المقارنة بين الأطروحات الثلاث نستطيع أن نخلص إلى ما يلي : هناك أطروحات تؤكد أن الحقيقة هي واقع أنطولوجي معقول يوجد خلف المدارك الحسية (أفلاطون وأرسطو)، إلا أن هذا الواقع في اعتقاد أفلاطون مفارق للعالم الحسي، وهو في اعتقاد أرسطو محايث له (= متصل به). أما ديكارت فيختلف عن الفيلسوفين، لأن الحقيقة، في نظره، غير موجودة في الواقع لأنها بناء عقلي يتم من خلال عملية الشك. هكذا يكون الفكر هو الذي يحتضن الحقيقة، ولا وجود لحقيقة خارج الفكر.
.
2 الحقيقة بما هي مطابقة الفكر للواقع إذا اعتبرنا الحقيقة بناء عقليا مجردا وتمثلات ذهنية متجاوزة للإدراك الحسي ؛ فإننا نجد الأطروحتين، الأفلاطونية والأرسطية، تعتبران الحقيقة بناء فكريا يتجلى في تمثل واقع موضوعي مفارق للواقع المادي الحسي (أفلاطون) أم محايث له (أرسطو) … إلا أن الأمر مختلف مع ديكارت، فدعوة هذا الفيلسوف إلى تجاوز المعرفة الحسية لا تعني بالضرورة تجاوز العالم المادي إلى واقع غيبي ميتافزيقي. وهنا تتوالى عدة تساؤلات : كيف يمكن التحقق من مطابقة الفكر للواقع، رغم غياب الاعتماد على التجربة الحسية؟ ما الذي يضمن صدق البداهات العقلية ؟ للإجابة على هذه الأسئلة لجأ ديكارت إلى فكرة الضمان الإلهي، مؤكدا أن طيبوبة الله واتصافه بالكمال يحولان دون وقوع العقل في الخطأ. ومن ثمة ما يبدو للعقل أنه يقيني، فهو كذلك.
وقد أتت الأطروحة الكانطية كأطروحة نقدية لمثل هذه التصورات. فاعتبرت الحقيقة بناء عقليا يتم بتظافر العقل والحواس، فالحواس تمد العقل بمادة المعرفة، والعقل يوظف مقولاته القبلية لإعطاء هذه المادة صورا إبستيمية. وهكذا يبين كانط أن الحقيقة ليست على نحو جاهز لا في الواقع ولا في الفكر، وإنما الحقيقة تفاعل دياليكتيكي بين معطيات التجربة والمفاهيم العقلية. ومهما بلغت درجة معرفتنا، فإنها ستظل نسبية ما دمنا نجهل حقيقة النومين والأمور الميتافزيقية.
أما مارتن هيدجر M. Heidegger ، فقد حاول أن يتجاوز أطروحات الفلسفة التقليدية حول المطابقة بأن تساءل حول الكيفية التي يمكن أن تكون بها الحقيقة استنساخا للواقع وترجمة أمينة له!؟! فالتطابق لا يمكن أن يكون إلا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة، فكيف يمكن أن يكون الفكر مطابقا للواقع وهما مختلفان؟!! لذا يرى هيدجر أن المقر الفعلي للحقيقة ليس هو الفكر (أو المنطوق) لأن الحقيقة انكشاف وحرية. أو بتعبير آخر : الحقيقة هي انفتاح على الواقع واستعداد لاستقباله في الصورة التي ينكشف بها أمام الذات، وهي كذلك تعبير حر للذات في تعاملها مع الواقع، أو كما قال هيدغر : "الحقيقة هي الحرية".
من خلال المقارنة بين التمثلات الفلسفية المعروضة، يتضح أن الفلاسفة يؤسسون خطابات متعددة حول الحقيقة. وهذا ما يدعو إلى طرح التساؤل الآتي : ألا يمكن الحديث عن حقائق (بدل الحقيقة الواحدة)؟!!