الخفاش
* محمد جزار
أفاق متثاقلا يستجمع أجزاء أجنحته المتعبة. من البهو الصغير المنفتح مباشرة على السماء، لاحت جحافل الظلام تتزاحف مكشرة عن ليل آخر جديد. وقف متمايلا بعض الشيء وأطلق العنان لعضلاته الخاملة كي تلتوي و تتكسل، ثم وضع الفوطة على كتفه اليمنى واتجه نحو دورة المياه، فيما صوت أبيه، المزعج كالعادة، قد ملأ أجواء المنزل محتجا على خموله وكسله المريع.
لم يرد أن يدخل في مشاداة مجانية مع أبيه المتشبع بنظرية ˝الفياق بكري بالذهب مشري˝، ولا أن يلعن الصباح الباكر في مدينة ضبابية مثخنة بالسبات والشخير، ولم يرد أن تلتقط آذانه حصيلة التلفاز التي تبدو كقاذفات شيطانية مشؤومة لشدة ما تحفل به من كوارث وحروب وأعمال عنف وتقتيل هنا وهناك، حتى لتحسب أن نبض الأرض قد يوشك في أية لحظة على التوقف .
لم يرغب في أي شيء، فقط تقمص أسماله بسرعة واتجه بخطى حثيثة نحو الباب، ثم قذف بنفسه ﺇلى الخارج ليعيش لحظاته الخاصة ويندمج مع صديقه الليل وهو يشاغبه بتحيته المعهودة:
صباح الخير أيها الليل!
صباح الخير أيتها الطيور المشردة في أشجار الليل!
صباح الخير أنا!
أنا الخفاش القديم الذي حكت عنه الأساطير الغابرة.
أنام طوال النهاروأسعى في الليل، وأنتظر ما يخبئه لي القدر من تصاريف وصدف، وأنا أتدحرج كقطعة قمر منسية في زواياه المعتمة.
ماذا عساني أن أظفر من كد النهار!؟ التعب للنهار والراحة لليل،والليل ملكوت سماوي شاسع يحلق بأجنحة مهووسة بانطوائيته الهادئة وخلوته الحميمية!
إنها دروب طويلة لا تبصرها إلا عيون أمثالي،بنظرات شاحبة وثقيلة في وجه الحيطان الصفراء والباردة للمدينة العتيقة.
ها هي ذي خطواتي تكسر سكون الظلام من جديد، وأنا أقذف أرجلي بتثاقل لأنفض عني بقايا النوم.
التويت عند رأس الزقاق،على طوله تتناسل مشاهد تشبه فسحات منفلتة من ضغط ما؛ سور سميك يحلو لنا أن نسميه "برلين القصدير" يذكرنا بالأسوار التاريخية القديمة، أقيم ليس بغرض صد الهجمات الرومانية أو البيزنطية كما قد يبدو، بل فقط ليخفي علب البؤس المتكادسة وراءه ، سكارى يصرخون بأعلى صوتهم وهم يلوثون الهواء بكلمات نابية،عاهرة تتمايل بجسمها المنهك وهي تحاول التخلص من زبون يتعقبها،فتيان بأسمال بالية متجهين نحو المرسى لمزاولة الساعات الإضافية في "التهومير"* كحمالين لصناديق السردين...
وأنا أقذف بجسمي رجلا رجلا،نفسا نفسا، وجدتني أطرق باب صديقي فريد.
أظنها عادة سيئة أن يخرج المرء في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل!في تلك الأثناء، كنت أسأل نفسي بسخافة فيلسوف مبتدئ׃ إذا رأيتني أمشي في الشارع نهارا،فمعنى ذلك أنني في سلة المهملات،كنت أحكي إذا رأيتني أفكر،فمعنى ذلك أنني لست في برج العقرب! وإذا حكيت لكم أني سكرت سكرة حتى آخر الليل رفقة خفافيش تعشق الظلمة إلى حد العمى،فما معنى الصباح حين يتسلل إلى شرفة اليقظة بأضوائه الفازعة!
وبينما أنا غارق في تأملاتي عن الكائنات الضوئية التي تبدو لي كخرفان مقيدة بأصفاد الشمس الحارقة،وعن دماغي التافه،فتح فريد الباب،ودون أن يشعرني بأدنى إنزعاج من جهته، بادر بإشارة من يده اليمنى׃ تفضل!
سألته وأنا أدخل׃
- هل أنت وحدك؟
- لقد ذهبت فاطمة لتوها.هل تعشيت؟
- ماذا أرى على الطيفور،أهو لحم الحلوف!؟
- نعم، هو بذاته وصفاته، ألا يعجبك؟
- أنا لا أستسيغ طعمه.
- لا يهمك، كثيرهم الذين لم يكتشفوه، وبمجرد ما تذوقوه حتى أصبح من ألذ الوجبات لديهم، ثم إن هذا في صالحك حتى تصبح سمينا مثلي وتتخلص من هيأتك النحيفة التي تشمئز منها الخفافيش.
- قلت لك أنا لا آكل لحم الخنزير، ليس لأنه يفسد الوضوء، أو لأنه لا يظهر في الأقمار الهجرية، أو لأنه يضعف، كما هو شائع ،هرمون المروءة لدى الرجال ويفقدهم الإحساس الغريزي بالغيرة، ،إنه فقط لا يعجبني.
أحيانا ليس من الضروري أن يجد الإنسان مبررات لا تخص الآخرين في شيء! هذا ما كنت أعتقده دائما!
وبينما كان فريد منشغلا بتهييئ" شواية " على الزيت لقطعتين من "صوصيط" الحلوف،كنت أكلم صورة نسيبه العياشي المهاجر باسبانيا.
أتأمل شاربه الكث والطويل والذي يوحي بشراسة الطبع ،والخشونة البادية على وجهه غير الودود تكشف عن خبايا إنسان متورط في الشقاوة.
أما فريد الذي يقيم بالمنزل كحارس له،فإنه يكن لنسيبه إحساسا ممزوجا بالود والكراهية ويحمله المسؤولية في كونه لم يستطع مساعدته على الهجرة إلى الخارج.
فكرت׃ ما أتعس أن يعيش الإنسان إحساسين متناقضين في نفس الوقت!
موسيقى عبد الوهاب تملأ أجواء الغرفة،غمرتني لتوها ببحر من المشاعرأخذت تتدفق تدريجيا في أحشائي، نفسها المشاعر التي كنت لا أرغب فيها معظم الأحيان، مما يجعلني أغيرها بموسيقى تافهة حتى تكتمل التفاهة في حياتي.
أشعلت سيجارة شقراء وأنا أنظر إلى الجدران الصفراء والمقفرة .
كانت الغرفة متوسطة المساحة، تتوسطها مائدة خشبية مستطيلة ، جوانبها متآكلة، وفوق رأسي نافذة صغيرة زرقاء كنت أحبذ دائما الجلوس تحتها لما تجود به من نسائم خفيفة تتلف أجواء الغرفة القذرة.
كان السقف خشبيا من البناء القديم، والحيطان مهترئة ونحيفة بها قشور جيرية تبرز الألوان والطبقات المتراكمة فوق بعضها والتي تؤرخ ربما للعصر الجيري الأول!
وبينما أنا غارق في تأملاتي الصامتة في خبايا الجدران، باغثني فريد بصفيره ، وبيده قنينة من النبيذ الأحمروكأسين .وضعهما بمرح فوق الطاولة وعاد فورا إلى المطبخ ليحضر ال"صوصيط" وصحن صغير من الخيار*لإتلاف مذاق الخمرة الرخيصة التي يعترف أنها بدون خيار تخنق حنجرته.
جلس قبالتي وسألني بلهفة׃
- هل بحوزتك سجائر؟
- إنها ليست كثيرة،قلت.
- المهم أنها معك في هذه الساعة المتأخرة،ثم أردف بلباقة كأنه تفرس حالتي المتوترة:
- لا تبدو على ما يرام هذه الليلة! هل تشاجرت مع أحدهم في المنزل؟أم هو الأرق اللعين؟
قلت بتهكم׃ أذاك تسميه منزلا،ألا تخجل!؟
- المهم أننا نختبئ مثل الفئران،وهذا جيد،احمد الله فإن الحمد يملأ المنازل،هكذا تواجهني والدتي دائما عندما أتحدث مثلك أمامها.
أجبته هذه المرة بإيماءة من رأسي لا أعرف ما كنت أعني بها.
ملأت الكأسين ،ناولته أحدهما . استقبل الكأس بانشراح محاولا الترفيه عني:
اعطاك الله الخير،انسى الدنيا تجي حتى لبابك.
وتبادلنا بسمات كاتمة ونحن نشعل سجائرنا القليلة.
شربت كأسي. استلقيت قليلا إلى الوراء وفكرت. تلك عادتي التي أصبحت مدمنا عليها كلما استفزتني أسئلة اليقظة الفجة، وما تثيره في دواخلي من قلق وتوتر.
شربنا القنينة دون إنتباه منا بعد أن تحدثنا عن أشياء كثيرة أظنها فارغة.
ساعتها أحسست بانعاش طفيف وارتخاء لذيذ غمر جسمي ، بينما أصيب فريد بعطش شديد ورغبة عارمة في إحضار المزيد من النبيذ. وقف وقد شد رأسه بيده اليمنى كأنه منشغل بتفكيك ﺇحدى المعادلات الرياضية المعقدة، ثم خرج من الغرفة.
في تلك اللحظة، صوبت عيني نحو الساعة المعلقة على الجدار. كانت الساعة قديمة ومكسورة الزجاج، لونها أصفرباهت مزركش بخطوط غير مفهومة،عقاربها ملتوية كأنها تشير إلى زمن خرافي غريب أيقظ في نفسي رغبة في تدخين'' الكيف '' ،لأعيش لحظات أسطورية حقيقية مع هذه العقارب التي تئن ببطء شديد.
إقتحم فريد خلوتي وبيده قنينة أخرى وهو يصيح بصوته الرديء:
ياليل طول أو لا تطول الخفاش هنا على طول...
رفعت عينين مثقلتين نحوه وقلت:
- من أين لك بالقنينة وأنت على حد علمي مفلس هذه الأيام!؟
ضحك قليلا وانتصب بنوع من الإعتداد ثم قال:
- ألا يقال أن وراء كل رجل عظيم امرأة!
- وهل تعني بقولك فاطمة؟
- ومن سواها؟.إنها امرأة ناضجة تفهم الرجال على كل حال.
وبسرعة خاطفة تشابكت في رأسي أفكار لعينة عن المرأة؛ المرأة ضلع أيسر غامض،لها القدرة على بيع جسدها ومنح نفسها فرصة الحب ووهم الحب دون مقابل، التفاحة المحرمة، الأقواس، أمواج الرغبة ، الأصل في الكارثة الوجودية الأولى التي رضخت آدم وطردته من سماء الخلد والنعيم ﺇلى أرض التيه والعراء، كائن غير قنوع لا يكل من التطلب والرغبة، الرغبة في تملك كل شيء قد يخطر على بالك ...
تأكد أن المرأة تحب لشيئين: إما للمال الوفير أولفحولة الرجل المفرطة،وفي هذه الحالة يمكنها أن تقدم الغالي والنفيس في سبيل هذه الشهوة العابرة! والسر في ذلك يرجع – حسب السيكولوجيا السريرية - في كون الظفر بالرجل، يشكل بالنسبة للمرأة، أهم وأعظم ديبلوم في العالم..!
فاطمة فتاة تنبعث منها رائحة أنوثة لا تقهر،وطلعتها البيضاء و المكتنزة تؤجج، بمجرد النظرإليها الرغبة في ممارسة الحب معها وتملكها.
في الحقيقة ما أروع أن يعيش الإنسان ما يريد وكيفما يريد! فأنا أريد( وما تريدون إلا أن يريد الله رب العالمين)، أضعت مفاتيح الرغبة لأنه أصلا لا مفاتيح لدي حتى تتفتق رغباتي وتكون لي أمنيات، فأن تحقق ما تريد ، يعني أنك قريب جدا من الجنة!
طرقات متسارعة تسمع على الباب.
- من الطارق؟ صاح فريد.
صوت من الخارج يرد بخفوت وارتباك واضحين:
- أنا رشيد .
فتح فريد الباب وباشره مازحا:
- ها أنت يا وجه النحس،ادخل!
- لست وحدي، بصحبتي فتاتان محترفتان في السياحة الخفاشية، سوف تسهران معنا هذه الليلة.
بادر فريد بخفة.
- أدخلهما بسرعة حتى لا يكتشف الأمر أحد الجيران، فهم غالبا ما يتنصتون ويسترقون النظر خلف النوافذ، وخاصة تلك البومة شامة.
شامة امرأة مسنة طحنتها التجاعيد، محترفة في التجسس على الجيران كنوع من التسلية في حياتها، إبنها الوحيد معتوه وله صراع تاريخي مع الوافدين الدخلاء على المدينة، حيث ينهال عليهم طيلة النهار بالسب والشتم لأنه يعتبرهم السبب الرئيسي في الخراب الذي حل بها.
تطلع رشيد برأسه إلى الداخل:
- يبدو أن أحدا معك.
- ومن سيكون غيره!.
استمتعت بالحوار كله وأنا في شوق كبير لرؤية القطتين،.فلربما ظفرت بواحدة أقضي معها ما تبقى من الليل حتى يتكسر الجمود عن هذه الأمسية الذكورية الخشنة، لا سيما وأن القاعدة تقول:"كل من دخلنها فهن ملك للجميع"، فإن شاء الله سأكون تلميذا مجتهدا وأطبق القاعدة- تلذذت في نفسي.
دخل رشيد بعد أن ألقى التحية المألوفة وقد أشار إلى الفتاتين كي تدخلا إلى الغرفة المجاورة حتى يتم النداء عليهما لاحقا وكأنهما لبؤتان ظريفتان لا تصلحان سوى للنطاح السريري.
تظاهرت بأنني لا أعرف شيئا عن الموضوع وقلت:
- أين أنت يا رجل؟ لم نرك منذ مدة، كيف حال الزهرة، أهي في أحسن الأحوال؟
رد علي بتذمر واضح:
- أنت بمثابة أخي، أصارحك القول أنني لم أذهب إلى المنزل منذ خمسة أيام.
عاتبته بلطف:كيف تفعل هذا يا رشيد! أليس عيبا أن يهجر المرء زوجته خمسة أيام متتالية!؟
رد بلهجة محرجة كأنه يرغب في التخلص من الموضوع:
دعك من هذا الكلام، أرجوك لا تفسد علينا الأمسية الجميلة، ثم تابع:
- لدي قنبلتين لحميتين ،صادفتهما بمقهى"هيسبريس" وأقنعتهما كي تبيتا معي، إنني كما تعرف أهوى هذه السرقات التي لا أتمناها لأحد مثلك، فأنت لست من النوع الذي يلهث وراء النساء. أحسدك على ذلك.
رمقته بنظرة ذئبية وأنا أضحك وقلت:
- وهل ستنفرد لوحدك بالقنبلتين معا؟حتى أنا أحب أن أكون شهيدا لإحدى قنبلتيك الجهنميتين.
رد علي بترحيب تام: ما عاد الله! ألا تعرف القاعدة!؟ سأنفرد بواحدتي فقط.
في هذه الأثناء آثر فريد النوم.راقني هذا كثيرا.
لقد كانت فوزية القادمة من ريف سوق الأربعاء فتاة طرية ،سمراء وحارة، ذات نهدين جامحين ، شعرها أسود حريري ورائحتها زكية ، وهذا ما أعشقه في النساء عادة ويجعلني دون شعور مني ألتهم وأزدرد وألعق جسم هذا المخلوق اللطيف.
لا بأس في أن يتخلل هذه اللحظات الممتعة بعض الشكوى والتذمر، بين الحين والآخر، وعن إعترافات تنم عن أفكار مغلوطة ومندفعة كانت تجول برأس فوزية حول إيقاع الحياة بمدن الشمال ، والتي تعتبرها المعبر الذي سيفضي بها إلى"الحريڴ"* نحو إسبانيا.
- وأنا!- التفتت ﺇلى نفسي- أنا بدوري سوف أخرج لألقى مصيري المجهول في هكذا صباح خريفي قارس ، حيث مشيت مختبئا أروم الحيطان الظليلة وأتفادى كائنات النهار حتى وصلت إلى المنزل ، وبمجرد ما دلفت الغرفة ، حتى انكمشت كحلزونة مذعورة في فراشي المتعب.
سوف أنتظر الليل ليس بفارغ الصبر كما يقال، وسيكون لنا سفر آخر وتحليق آخر..! وحتى ذلكم الحين ، تصبحون على جناح !.
*التهومير:نوع من الشغل.
*الخيار: نوع من الخضر.*
*الحريڴ: الهجرة السرية في قوارب الموت.