الندوة الوطنية حول المدرسة والسلوك المدني
( المجلس الاعلى للتعليم ،الرباط 23-24 ماي 2007)
.1 دلالات المفهوم وتجلياته :
1.1. من التعدد الدلالي إلى محاولة التحديد الإجرائي
يندرج مفهوم "السلوك المدني" في شبكة مفاهيمية واسعة، تتداخل فيها المعاني وتتعدد الدلالات، وإذا كان هذا المفهوم بمكونيه: السلوك والمدنية يحيلان في نفس الوقت إلى الأخلاق والإيتيقا، وإلى التمدن كحالة مجتمعية ترادف التحضر؛ فإنه يستدعي، في الآن ذاته مفاهيم أخرى محورية، مثل : الديموقراطية والمواطنة والوطنية واحترام حقوق الإنسان، والمدنية، والحس المدني والتربية المدنية، أو التربية على المواطنة أو التربية على حقوق الإنسان. لذلك تعكس المصطلحات المستعملة في مجاله الواسع، والمرادفات التي يحيل عليها في أحيان كثيرة؛ تطورا تاريخيا وسياسيا للمجتمع، وكذا تحولا في القيم الأخلاقية والإنسانية؛ فإذا كان الحس المدني مثلا يعبر عن الفضائل الضرورية للسلوك الفردي والجماعي، فإن التربية على المواطنة تهدف إلى تحديد وفهم العلاقات القانونية التي تضبطها قوانين وتشريعات الدولة، بينما تسعى التربية على حقوق الإنسان إلى التعلق بالقيم الكونية للإنسانية جمعاء. وهكذا فإن أي مصطلح من المصطلحات المذكورة له معناه وهدفه الخاص وسياقه التاريخي.
هناك إذن معنيان يعكسان تطور المفهوم :
معنى عام يشمل واجبات المواطن(ة) ومسؤولياته في علاقته بالدولة من جهة، وبالمواطنين من جهة ثانية ؛
ومعنى خاص يحدد الفضائل الضرورية الواجبة في تنشئة المواطن(ة) الصالح، المتمتع بالحس المدني والانضباط والإخلاص للمجموعة الوطنية
إن هذه المعاني التي ارتبطت بتطور المفهوم في الثقافات الغربية اليونانية واللاتينية والمعاصرة، تظهر بوضوح في مفهوم التربية في الثقافة العربية وفي التراث الإسلامي الديني والفكري. فهي تعني التأديب من جهة، والتهذيب من جهة ثانية. فالتأديب هو توجيه الطفل(ة) نحو الانضباط والانتظام، أي تلقينه قواعد الضبط الأخلاقي الاجتماعي، أما التهذيب فغايته طبع النفس البشرية بالفضائل الدينية والأخلاقية، وهي فضائل أخلاقية وعقلية في نفس الوقت. فغاية التربية الإسلامية هي توجيه السلوك الفردي من جهة، وتنظيم الحياة الاجتماعية من جهة ثانية.
إن هذا التعدد الدلالي الذي يرتبط بمفهوم تنمية السلوك المدني، والذي يحيل إلى حقول واسعة مثل القانون والأخلاق وقواعد السلوك وأنماط التربية، بقدر ما يغنى تحديد المفهوم نظريا بقدر ما يجعل تحديده على صعيد الممارسة صعبا وغير يسير. إلا أن هناك مجموعة من التحديدات الأولية تمكن من تشخيص هذا المفهوم في عمليات أساسية لها بعدها التربوي مثل:
ترسيخ مبادئ وقيم المجتمع في انفتاحها على القيم الكونية؛
معرفة المؤسسات والقوانين والمعايير الوطنية والالتزام بقواعدها؛
فهم قواعد الحياة المجتمعية بمعناها الواسع، واكتساب حس المسؤولية الفردية والجماعية؛
الوعي بالحرية في التفكير والتعبير وفي ممارسة الحياة العامة والخاصة مع احترام حرية الآخرين؛
إعمال الفكر النقدي والدفاع عن الرأي.
وذلك مع اعتبار تأسيسها على قاعدة قبول الآخر والحق في الاختلاف عنه، وانطلاقها من المبادئ العامة لانتظام الحياة المشتركة بين الأفراد. 1. دلالات المفهوم وتجلياته :
1.2. التجليات الأساسية للمفهوم
يتجلى مفهوم السلوك المدني أساسا في:
احترام الفرد لمبادئ ومقومات وثوابت مجتمعه ووطنه وهويته وأرضه وبيئته ؛
إدراك الفرد لوجوده كعضو داخل جماعة (الجماعة بمفهومها الواسع الحديث التي تبدأ بالأسرة وتنتهي بالمجتمع الإنساني) ؛
استحضار الوازع الأخلاقي ؛
الالتزام بالواجبات واحترام الحقوق ؛
اعتماد مبادئ العدالة والديموقراطية والإنتاجية والتضامن اجتماعيا وسياسيا وتربويا ؛
ممارسة الحرية في إطار المسؤولية ؛
احترام الأفراد والجماعة لمبادئ وقيم حقوق الإنسان ؛
المشاركة في الحياة العامة، والاهتمام بالشأن العام.
وبشكل عام تتجلى تنمية السلوك المدني في "إكساب أفراد المجتمع بطريقة عملية وفعالة مبادئ السلوك الاجتماعي في البيت والمدرسة والشارع والأماكن العامة وعند ممارسة المهنة، وكذلك مبادئ احترام الغير وتقبل رأيه ومساعدته والتضامن معه وتجنب إلحاق الضرر به، وذلك بخلق ضمير اجتماعي لدى كل مواطن(ة) يستند إلى قيم التعاون والعدالة والديموقراطية وحب الوطن والغيرة عليه وتوظيف كل الطاقات لبنائه ورفعته لأداء رسالته الحضارية كجزء من الحضارة الإنسانية".1. دلالات المفهوم وتجلياته :
1.3. ما المقصود بتنمية السلوك المدني ؟
حين يتعلق الأمر بتنميةٍ السلوك المدني، فإن ذلك يحيل مباشرة إلى مسألتين أساسيتين :
كون هذا السلوك مكتسب عن طريق التنشئة المجتمعية، وكونه حاضر بتجلياته ومظاهره في العلاقات بين الأفراد وبينهم وبين المؤسسات: مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع؛
كونه كسلوك فردي واجتماعي غير مطلق وغير ثابت بل هو قابل للتطور، ومن ثم، لا بد من تنميته وفتح آفاق استثماره لترسيخ التمدن وقواعد المدنية داخل المجتمع.
وإن الحركية بين المكتسب وبين تنميته وترسيخه، تندرج مباشرة في مجال التربية باعتبارها تنشئة اجتماعية، وتحيل إلى مؤسسات التربية وأدوارها الأساسية والمركزية.
3. نظرة على واقع السلوك المدني في الوسط المدرسي :
3.1. التجربة المغربية
يمكن تقديم بعض الإضاءات الخاطفة عن تجربة قطاع التربية الوطنية بالمغرب في مجال التربية على حقوق الإنسان والمواطنة، كمساهمة في تنمية السلوك المدني لدى أطفال المغرب المتمدرسين ولدى مختلف الفاعلين التربويين الذين يقاسمونهم حياتهم المدرسية يوميا.
التربية على حقوق الإنسان
ظهر هذا المصطلح في أدبيات وزارة التربية الوطنية، بشكل علني وواضح ومستعمل، مع إعلان العشرية الأممية للتربية على حقوق الإنسان (1995 – 2004 ) وسجل المغرب انخراطه في هذه العشرية ببرنامج وطني للتربية على حقوق الإنسان وذلك من خلال عمل مشترك بين وزارة التربية الوطنية ووزارة حقوق الإنسان. وقد ركز هذا البرنامج على المناهج التعليمية عبر السعي إلى تحقيق هدف رئيسي حدد في تعزيز مفاهيم حقوق الإنسان في البرامج الدراسية، وخاصة في المواد التعليمية التي تشمل مجالاتها المعرفية ومفرداتها علاقة واضحة مع ثقافة حقوق الإنسان.
واستمر العمل في هذا البرنامج على ثلاث مراحل، أخذت منه المرحلة الإعدادية القسط الأوفر، بالنظر إلى جدة العمل والمقاربة والشركاء ومجال الفعل، لكي ينتقل إلى المرحلة التجريبية التي أنجزت، على عجل، من أجل المرور إلى مرحلة التعميم التي عقدت عليها آمال كبيرة، لم يتمكن القائمون على البرنامج من اختبار آثارها ولا معرفة تأثيرها بشكل موضوعي وعلمي.
وقد وفر هذا البرنامج رصيدا هاما من الوثائق والدلائل البيداغوجية والتقارير، كما أنه كان موضوع نقاش مفتوح، سواء من لدن خبراء البيداغوجيا والديداكتيك أو من طرف المنظمات غير الحكومية ذات الاهتمام الحقوقي التي انخرطت بدورها في العشرية الأممية حيث انتقلت في أهدافها الأساسية من الدفاع عن حقوق الإنسان إلى التربية عليها.
وباعتبار كل ذلك، يمكن جرد مجموعة المظاهر التي أفرزها تنفيذ هذا البرنامج الوطني على امتداد مراحله :
الانخراط والحماس الواسع الذي انتشر بين هيئة التفتيش التربوي ومختلف الأطر المعنية لتنفيذ مقتضياته وتحقيق أهدافه ؛
الدينامية التي خلقها على مستوى الاجتهادات التربوية والبيداغوجية وكذا الديداكتيكية في أوساط هيئتي التدريس والتفتيش، لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في الوسط التعليمي ؛
الوعي بأهمية التكوين الأساسي والمستمر في ميدان حقوق الإنسان لكافة الأطر التربوية والإدارية ؛
الحرص على تصفية التأليف المدرسي من كل الشوائب التي يمكن أن تعرقل تحقيق أهداف التربية على حقوق الإنسان ؛
تعزيز الأنشطة التربوية والثقافية والاجتماعية التي تقوم بها أطر المؤسسات التعليمية، بفقرات متنوعة خاصة بثقافة حقوق الإنسان والمواطنة.
أما الانتظارات التي خلقها تنفيذ هذا البرنامج، فيمكن تحديدها إجمالا في ما يلي :
المساهمة الواعية من لدن هيئتي التدريس والتفتيش التربوي، في ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، عبر تطبيق المناهج وعبر مشاريع المؤسسة المدرسية ؛
التمثل الواضح لمفاهيم الكرامة والحرية والمساواة والتسامح والتضامن والديموقراطية والقانون، من طرف التلميذات والتلاميذ، وهي المفاهيم التي ينبني عليها منهاج التربية على حقوق الإنسان الذي وضع في إطار البرنامج الوطني للتربية على حقوق الإنسان وعمّم على مجموع المدارس ؛
انعكاس هذا التمثل الواضح على سلوكات ومواقف كل الفاعلين في الحياة المدرسية من هيئة تدريس وإدارة تربوية وتلميذات وتلاميذ وكذا كل الشركاء المحليين ؛
تجليات كل ذلك في الفضاء المدرسي بما يعنيه من نبذ للعنف ومساهمة في تحسين جودة عطاء المؤسسة التعليمية وجماليتها، في إطار التعاون والتضامن والتآزر، وفي ظل احترام الاختلاف وممارسة الحرية والديموقراطية ؛
المحافظة على الحماس الذي انبثق من التنفيذ وتحويله إلى قوة دافعة لإبداع وابتكار صيغ جديدة لدعم وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة.
لقد أصبحت هذه الانتظارات أكثر طموحا بتدخل عوامل جديدة منها أساسا :
الاهتمام بالحياة المدرسية إلى جانب المناهج والبرامج والكتب المدرسية؛
اعتماد المرجعية الحقوقية في مجال الطفل
الاهتمام الخاص بمفهوم المساواة واعتماد مقاربة النوع الاجتماعي؛
التركيز على مفهوم تكافوء الفرص ومفهوم الإنصاف في الوسط المدرسي؛
الوعي بأهمية الشراكة مع المنظمات والجمعيات الحقوقية والنسائية والتربوية؛
التنسيق مع القطاعات الحكومية ذات الصلة من أجل بلورة خطط ومشاريع وبرامج تعزز ثقافة حقوق الإنسان؛
الانخراط في الخطة الوطنية للنهوض بحقوق الإنسان
من التربية الوطنية إلى التربية على المواطنة :
حدث هذا التحول بفعل مراجعة المناهج والبرامج وفق متطلبات إصلاح منظومة التربية والتكوين كما أقرها الميثاق الوطني. وإن لهذا التحول دلالته التربوية، رغم أنه يعتبر حينا تعويضا لمادة بمادة جديدة وفي حين آخر استمرارا لنفس المادة السابقة باصطلاح جديد. وغير خاف التباين القائم بين مفهوم الوطنية ومفهوم المواطنة، ويظهر ذلك جليا عند الإطلاع على محتوى ومضامين مادة التربية على المواطنة. بالإضافة إلى المدى الزمني الذي يستمر فيه تدريسها حيث ينتهي في حدود التعليم الإلزامي (سلك الثانوي الإعدادي).
وفي غياب تقويم موضوعي لحصيلة تدريس هذه المادة الجديدة، لا يمكن تحديد مظاهر أثرها على التكوين خاصة لدى تلميذات وتلاميذ الثانوي التأهيلي حاليا. مما يطرح ضرورة التتبع والمواكبة ورصد الأثر.
3. نظرة على واقع السلوك المدني في الوسط المدرسي :
3.2. تجارب مقارنة
يبدو من الضروري التعرف على تجارب مقارنة في بلدان أخرى، حيث إن التربية على المواطنة في الوسط المدرسي ظهرت عموما كتعبير عن تطور المدينة من جهة، وتحول القيم من جهة ثانية. ذلك أن توفر المدينة على طابع قانوني، سياسي وترابي، فرض على المواطنين واجبات ومسؤوليات جديدة، تربط علاقتهم بالدولة وبغيرهم من المواطنين.فالقيام بهذه المسؤوليات هدفه خلق المواطن الصالح المتمتع بالخصال المدنية الوطنية والأخلاقية.
هكذا بدأت الحاجة تظهر إلى التربية على القيم المدنية في البلدان ذات الهياكل المدرسية العمومية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ( بلجيكا 1868 م، النمسا 1870 م، بروسيا 1872 م) أما في فرنسا فقد أدمجت في التربية الأخلاقية في سنة 1883 م، لكنها عرفت بعد ذلك نظام "شهادات المدنية"، ثم "التربية أو التعليم المدني"، إلى أن أصبحت تمثل قسما من مقرر التاريخ، كما تغير هدفها من تكوين أخلاقي للمواطن إلى تلقين قواعد السلوك المدني بالنسبة للأطفال في الابتدائي، وتدريس المدنية بالنسبة للإعدادي والثانوي، أي تعليم مفهومي وقانوني للقيم والسلوك المدني.
فقد عرفت "التربية المدنية" تطبيقات اختلفت باختلاف الأنظمة التعليمية، واختلاف تصورها للمواطن، وباختلاف الأنظمة السياسية :
فقد اقتصرت أحيانا على الجانب الإخباري الوصفي للمؤسسات الوطنية، وهي بذلك تخدم تصورا معينا للمواطن يعتبره عنصرا ذائبا في المجتمع، قابلا للتكيف مع واقع ما، دون إعداده للمساهمة في تطوير هذا الواقع. وهذا يتلاءم مع المفهوم التقليدي للتمدن ؛
أما في أنظمة أخرى فقد قامت على تصور المواطن في شموليته، فاعتمدت كل الصيغ البيداغوجية التي تلائم تكوين العادات والمواقف الضرورية لديه، ليكون مواطنا فاعلا في مجتمع ديموقراطي، يشارك في تدبير شؤونه بل في وضع قواعده وقوانينه، لا فقط في تطبيقها. فبالإضافة إلى تنمية الوعي الوطني فالتربية المدنية تهدف تكوين عادات فكرية أهمها : التأمل والتفكير والنقد، والارتباط بقيم أساسية، وتكوين سلوك اجتماعي عبر العمل الجماعي والانفتاح على تجارب الآخر...